إذلال الغزيين بمعبر رفح.. رحلة فساد سلطتَي مصر وفلسطين

السبت 1 سبتمبر 2018 11:09 ص

كشف المخرج الفلسطيني "مصطفى النبيه"، بعض تفاصيل ما أسماه "الرحلة المُذِلّة" في فساد سلطتَي معبر رفح الفلسطينية والمصرية، وذلك خلال سفرة من غزّة إلى القاهرة قبل أسابيع.

يقول إنه عندما حصل على تأشيرة لإحدى الدول العربية، ووجد أنه لا مطار ولا ميناء في غزة، والطريق الوحيد هو معبر رفح، فاتجه وفي الأول من رمضان لتسجيل اسمه في كشوف المسافرين، قبل أن يكتشف أن التسجيل عبر موقع الوزارة الإلكتروني.

وبعد أيام من عدم الرد، وتكرار السؤال حول السبب، يقول "النبيه"، إن أصدقاء أخبروه أن من يريد السفر، عليه أن يدفع ما يسمّى (تنسيق للطرف المصري) أي (رشوة قيمتها 1400 دولار)، وأن ذلك يتم بواسطة الطرف الفلسطيني، وأن هناك حافلة خاصة لفئة التنسيق تخرج يوميا.

يقول إنه دفع هذا المبلغ، وقيل له إن بإمكانه السفر بعد يومين، لكن مرّ أسبوع، دون جدوى، فاشتم رائحة نصب، وطلب استرداد المبلغ، عبر الرجل الوسيط، الذي طالبه بالتوجه لدوار النصيرات (وسط غزة) وسيأتي إليك من يعيد لك المبلغ.

ويتابع أن "شخص وسيم أبلغني اعتذاره، وقال لي إن اللواء المصري مضغوط بسبب كم المسافرين الذين دفعوا، وعلي الانتظار حتى الأسبوع المقبل إن كنت أرغب في السفر، فقلت له إنني لا أريد السفر، وأريد المبلغ، أعطاني المبلغ ثم كرّر السؤال: إن كنت تريد أن تسافر غداً عليك أن تدفع مبلغ ألف و700 دولار، وهذه المرّة لن تتأخّر فهناك سيّدة موثوق بها لها علاقة جيّدة بلواء مصري بإمكانه تسهيل أمورك غداً"، إلا أن "النبيه" رفض تلك الفكرة.

ويلفت أنه كرر هذه المحاولة مع شخص آخر، الذي تحجج بذات الذريعة، وهو الضغط على حافلات التنسيق بسبب كم المسافرين.

ويستطرد: "ندمت على محاولتي اللّجوء إلى الرشوة، وبدأت الاتصال بالكثير من المسؤولين الفلسطينيين، وأخبرتهم بحاجتي إلى السفر من أجل المشاركة في مؤتمر علمي، وزوّدتهم بالدعوة، وبعد مجهودات شاقة وعدوني بالمساعدة، فبقيت أياماً أراقب كشوف السفر ليلاً نهاراً".

نقاط فلسطينية

وبعد 3 أشهر من هذا الوعد، وجد اسمه في كشف المسافرين، وأخيرا توجه إلى "صالة أبو يوسف النجار" في خان يونس.

ويضيف: "استقبلنا الباعة في المكان، ومن يحملون الحقائب (الشيالين)، وكي نجلس على مقاعد، مجرّد الجلوس، يجب أن ندفع".

ويتابع: "وجدنا بعض الأفراد من خارج الكشوف تزاحم أصحاب الحق وتعتلي الحافلات، والتزمنا الصمت على أمل بأن يتحقّق حلمنا بالسفر، ولكن الشرطي لم يلتزم بترتيب الأسماء، وفق الكشف، فرفعت صوتي منبّهاً إياه، لكنه صرخ بي: "اكتفينا اليوم بنصف الكشف الثاني"، وجاء دور حافلة التنسيقات فانصرفوا إلى بيوتكم".

وفي اليوم التالي تكرّر المشهد ذاته، إلا أنني لم ألتزم النظام، زاحمت حتى اعتليت الحافلة، وسارت بنا إلى مدينة رفح، حيث توقّفنا عند نقطة ثانية (فلسطينية تسيطر عليها حماس)، سلّمنا أوراقنا، وتكرّر المشهد ذاته، وسألت نفسي ما الهدف من تكرار الإجراءات ذاتها عند نقطتين فلسطينيتين، ولم أفهم إلا عندما عدنا إلى الحافلة ووجدنا مسافرين جدداً لا أعلم من أين أتوا ولم تكن أسماؤهم في الكشوف.

ويضيف "النبيه": "تحرّكت الحافلة أمتاراً عدّة ثم توقّفت عند نقطة ثالثة، فشاهدت صورة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وصورة الراحل ياسر عرفات، فأدركت أننا خرجنا من دائرة حماس ووصلنا إلى دائرة فتح، حيث تم تدقيق الأوراق مجدداً، وسارت الحافلة حتى وصلنا إلى النقطة الرابعة وهي فلسطينية أيضاً، وتم فيها ختم الجوزات، وعندما اعتلينا الحافلة بعد ست ساعات من بدء رحلتنا مع الفجر، صدمنا بمجموعة من المسافرين (الجدد) تجلس في أماكننا، وعلينا أن نصمت ونجلس في أماكن أخرى".

الصالة المصرية

ويتابع "النبيه": "خرجنا ممّا يعرف بالصالة الفلسطينية، باتجاه الصالة المصرية، إلا أن الجنود المصريين لم يكونوا مستعدّين لاستقبالنا، بعدما انتظرنا واقفين في الحافلة أكثر من 15 دقيقة سمحوا لنا بأن ننزل، وتم تفتيشنا والتدقيق بالأوراق والحقائب، ثم دخلنا الصالة المصرية وتخيّلنا أن الغيمة زالت وأننا سنسافر كالبشر".

تسابقنا لملء بطاقات البيانات، فقال الضابط المصري: "اجلسوا، الوقت مبكر. هذه الإجراءات ستتم بعد قراءة أسمائكم من الكشوف، بعدها بإمكانكم تقديم البيانات مع الجوازات"، وانتظرنا، ربع ساعة، نصف ساعة، مرّت ساعة، وساعتان وثلاث ساعات، ونحن ننتظر حسب "النبيه".

ويتابع: "جلسنا على مقاعد غير مريحة إطلاقاً، وكان باستضافتنا أسراب من الذباب والروائح الكريهة.. حتى دورات المياه أبوابها مخلوعة لن تسترك، هجرتها النظافة، رائحتها تصيبك بالغثيان، ونحن تحت الأمر الواقع نطحن وليس بيدنا شيء".

ويستطرد: "وبعد ثلاث ساعات نادونا بأسمائنا، فقمنا بتعبئة البيانات، وسلّمنا جوازات السفر، وبقينا ننتظر، ومرّت ساعة وساعتان، وثلاث وأربع، حتى الساعة السابعة مساء، في تلك الظروف المذلّة المقيتة، حتى نادونا بأسمائنا من جديد، ووقفنا طابوراً للقاء المخابرات المصرية، والسؤال عن أسباب السفر".

ترحيل

ثلاثة رجال آخرين وأنا لم يسمح لنا بدخول مصر، حسب "النبيه" الذي قال إن السبب وراء ذلك ليس أمنياً أو سياسياً، فنحن نحمل تأشيرات لبلدان عربية أخرى، ومعنا تذاكر السفر من مطار القاهرة، لذا ممنوع "أن ندخل مصر آمنين"، ويجب أن نخضع لما يعرف بـ"الترحيل"، وهذا يعني ترحيلنا كاللصوص إلى المطار مباشرة، وممنوع أن نحيد عن الطريق إلى هناك أو ندخل أي مكان في مصر.

وعلى رغم مأساة الترحيل، فرحنا أننا سنتجاوز "الصالة المصرية" ونسافر، وانتظرنا أن ينفّذ الأمر لنخرج من هذا الجحيم، لكنهم تناسونا تماماً كما تناسوا الآخرين من المسافرين إلى مصر (غير طريق الترحيل).

ويضيف: "بقيت طول الليل مستيقظاً، وعند الساعة الواحدة صباحاً (بعد منتصف الليل)، سمعنا صوت الميكرفون ينادي على بعض أسماء المسافرين، وعلمنا أن هذه الأسماء سترجع من حيث أتت، إلى غزة، بعد محاولة سفر وانتظار قارب 24 ساعة، وكل المبالغ المالية التي دفعت، فهؤلاء منهم من هو (ممنوع من السفر) لأسباب أمنية أو سياسية أو مجهولة، أو لم تأتِ الموافقة عليهم".

"عاد المحرومون من السفر إلى غزة. وبقينا نحن في الصالة، نبحث عن قطعة كرتون نضعها على المقاعد لنتحمّل الإبر المنبعثة من أسفلها".

وعند الساعة الخامسة والنصف صباحاً، حسب "النبيه"، تم تسليم المسافرين لدخول مصر جوازات سفرهم، وخرج الجميع، العائلات والجرحى، منهكين، لكن على وجوههم ابتسامة لأن الفرج بالوصول ونهاية هذه الرحلة، أصبح قريباً.

وبقينا نحن الأربعة المرحلين ننتظر، سألنا: متى يحين دورنا؟، قيل لنا: ستخرجون بعد نصف ساعة عندما يأتي مندوب من السفارة الفلسطينية، قبل أن تمر خمس ساعات، وينضم إلينا فوج مسافرين جدد، وتتكرر المأساة من جديد.

عند الساعة الخامسة مساءً، ظهر مندوب السفارة، وقال لنا إنه سيحاول جاهداً أن يخرجنا في ذلك اليوم، ثم أخبرنا أن هناك سيارة إسعاف ستنقل ميتاً من غزة، وربما سيتم إخراجنا مع الميت حتى نصل العريش بعد التنسيق مع المسؤولين المصريين.

ظهر مندوب السفارة الفلسطينية مجدّداً الساعة الثامنة صباح اليوم الثالث، وتخيّلنا أن الغيمة انقشعت، وسنخرج من بين أنياب الذل، لكننا أدركنا سريعاً أنه سيتم استغلالنا مادياً، وسندفع نقوداً مضاعفة إن رغبنا في الوصول إلى المطار سالمين، ولكننا استسلمنا لواقع الاستغلال، كان أقصى طموحنا أن نغسل أجسادنا بالماء ونتطهّر من العفن وننسى لعنة "معبر رفح".

وبدأ مسلسل الحواجز المصرية المتتالية، وعلى كل منها التفتيش مجدّداً مع الإذلال والتحقير، ليصل عدد الحواجز 50 حاجزاً، بين كل واحد والآخر أحياناً مسافة تجعلنا نرى بالعين الحاجز السابق.

يقول "النبيه"، عما جرى في هذه الحواجز إنهم "احترفوا تجريدنا من كرامتنا، كل حاجز يسلّمنا للآخر، وعند بعض الحواجز تتمّ مصادرة بعض ما في حقائبنا، زميلي أخذوا منه حذاء جديداً، والآخر زجاجة عطر، وصمت المهانة، هو الواضح الوحيد في المعادلة".

وطمأنا مندوب السفارة أننا "الخاضعون للرحيل" أفضل حالاً من العائدين إلى غزة، والذين وجدناهم نائمين في العراء منذ ثلاثة أيام على حاجز "الريسة".

المعدية

وكانت الطامة الكبرى، حسب "النبيه"، عندما وصلوا ما يعرف بـ"المعدية"، وهناك نفض المصريون مجدّداً حقائبنا مرتين في المكان ذاته، في بداية المعدية وفي نهايتها، لم يتركوا قطعة إلا وألقوها على الأرض.

وبعد هذا الكابوس انطلقت الحافلة إلى المطار في رحلة استغرقت 16 ساعة، ليتم بعدها تسليمنا إلى مندوب المطار، كالمتّهمين الخطرين، ونحن غير قادرين على التفكير، ننسل خجلاً من روائحنا الكريهة.

ذهبنا إلى حمام المطار، وأعطيناهم مئات الجنيهات ليسمحوا لنا بأن نغتسل في دورة المياه، فما ذنب المسافرين معنا على الطائرة، ثم حجزت رحلة جديدة، فرحلتي السابقة ضاعت علي.

وبقي جوازي مع مندوب المطار حتى اقترب موعد إقلاع الطائرة، وأخيراً صعدت الطائرة، وطارت.

ويختتم "النبيه" بالقول: "لحظة صعود الطائرة إلى السماء، تمنّيت ألا تعود إلى الأرض. تمنّيت أن أقابل وجه الله وأتخلّص من شياطين الأرض".

  كلمات مفتاحية

رفح معبر رفح غزة فلسطين مصر فتح حماس سفر معاناة