تاريخ الصراع بين السعودية وتركيا للهيمنة على العالم الإسلامي

الأحد 28 أكتوبر 2018 07:10 ص

كان الأتراك والسعوديون أعداء لقرون. والآن نجحت التحقيقات بشأن "خاشقجي" في إثارة نزاعهم العنيف وقد يزعزع هذا السياسة في الشرق الأوسط.

ومنذ قرنين من الزمان، في خريف عام 1818، تم إحضار العاهل السعودي إلى إسطنبول مقيدا في السلاسل. وتم عرضه في قفص للحشود المبتهجة خارج مسجد "آيا صوفيا"، وبعد ذلك، وسط الألعاب النارية الاحتفالية، تم قطع رأسه.

ولم يتم ذكر هذه الحلقة الشنيعة في التاريخ المشترك بين تركيا والمملكة العربية السعودية علنا حين اشتبكت الدولتان حول مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" في 2 أكتوبر/تشرين الأول في قنصلية المملكة في إسطنبول. لكن الإرث الطويل للتنافس بين القوتين السنيتين، وكلاهما من حلفاء أمريكا الرئيسيين، قد غذى عزم الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" على معاقبة "آل سعود" على وفاة "خاشقجي".

وفي أعقاب مقتل "خاشقجي"، أعلن "أردوغان" أن تركيا "هي البلد الوحيد القادر على قيادة العالم الإسلامي". وهذا بالطبع هو الدور الذي يعتبره "آل سعود" حقهم الطبيعي؛ بسبب سيطرة المملكة على أقدس المواقع الإسلامية في مكة والمدينة، وعلى الحج الذي يجذب أكثر من مليوني مسلم كل عام.

وفي هذا التنافس، لا تستطيع إيران، التي تمثل النسخة الشيعية من الإسلام ذات الأقلية الصغيرة مقارنة بالعالم الإسلامي ذي الأغلبية السنية، الاشتراك في المنافسة. وفي الوقت الحالي، يسعد طهران أن تراقب من على الهامش، جهود منافسيها الإقليميين الرئيسيين لتقويض بعضهما البعض، تاركين القوى الغربية بخيارات جيدة قليلة للتصرف.

طموح القيادة

وقد حاول ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، البالغ من العمر 33 عاما، تأكيد طموح الرياض لقيادة الشرق الأوسط منذ أن تولى والده العرش عام 2015. وفي تحول كبير عن دبلوماسية دفتر الشيكات في المملكة، بنى الأمير "محمد" ائتلافا من الدول السنية، مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر، لشن حرب ضد حلفاء إيران في اليمن. وقد فرض حظرا لم ينجح في تغيير النظام في قطر، كما حاول التدخل في السياسة اللبنانية عبر إجبار رئيس وزراء البلاد "سعد الحريري" على الإعلان عن الاستقالة خلال فترة إقامته في المملكة، وهو القرار الذي ألغاه "الحريري" فور وصوله إلى وطنه.

وكذلك سعت المملكة وحلفاؤها بلا هوادة إلى قمع جماعة "الإخوان المسلمون"، وهي حركة سياسية إسلامية معادية للنفوذ الأمريكي في المنطقة. وقد دعم "أردوغان" أفرع الجماعة عبر العالم العربي منذ ثورات الربيع العربي عام 2011، وكان "خاشقجي" متعاطفا مع بعض أهدافها.

وبذل "أردوغان" عدة جهود لمناهضة سياسات المملكة. وأرسلت تركيا قوات لحماية قطر، وقوضت الوجود السعودي في الصومال، وأعلن عن اتفاق لتأجير جزيرة في البحر الأحمر مقابلة للسعودية في السودان، ربما من أجل إنشاء قاعدة عسكرية. كما أصبح "أردوغان" بطلا للقضايا الإسلامية التقليدية، مثل فلسطين، وأخرى جديدة، مثل معاناة "الروهينغا" في ميانمار. وقد تحولت إسطنبول إلى مركز مفضل للمعارضين الإسلاميين من مختلف أنحاء العالم العربي.

ويقول "سونر كاجابتاي"، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومؤلف سيرة ذاتية لـ"أردوغان" تحت اسم "السلطان الجديد": "تهدف استراتيجية السياسة الخارجية للرئيس التركي إلى جعل المسلمين يشعرون بالفخر مرة أخرى. وتعد تلك الرؤية نسخة معاد تصورها من الماضي العثماني، حيث يقود الأتراك المسلمين إلى العظمة".

وعلى مدى 4 قرون، كان السلطان في إسطنبول هو أيضا الزعيم الديني، أو الخليفة، للعالم الإسلامي بأسره. وقد تم الاعتراف بسلطته الروحية خارج حدود الإمبراطورية العثمانية، والتي شملت في ذروتها أجزاء من أوروبا الوسطى والشرقية، وشمال أفريقيا، وشبه الجزيرة العربية.

وقد تم إلغاء الخلافة فقط عام 1924، بعد 6 أعوام من فقدان العثمانيين السيطرة على مكة المكرمة والمدينة المنورة لصالح تمرد عربي برعاية بريطانية خلال الحرب العالمية الأولى. ونفت الجمهورية التركية الحديثة العلمانية، التي انبعثت من بقايا الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها من قبل قوى الحلفاء، السلطان الأخير، "محمد السادس"، إلى أوروبا عام 1922. ومع ذهاب العثمانيين، سرعان ما وسعت أسرة "آل سعود" معاقلها الصحراوية إلى معظم شبه الجزيرة العربية، حيث سيطرت على مكة أولا، ثم أنشأت دولة قوية جديدة عام 1932.

نموذج بديل

وإلى أن احتضن "أردوغان" السياسات العثمانية الجديدة قبل عقد من الزمان أو نحو ذلك، لم تكن الدولة التركية الحديثة تهتم كثيرا بقيادة العالم الإسلامي، وكانت مقتنعة بترك الدعوة الدينية للمملكة العربية السعودية. وقد انضمت تركيا إلى الناتو، وسعت إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ورعت روابط عسكرية وثيقة مع (إسرائيل).

وعلى النقيض من ذلك، تمثل تركيا الجديدة، تحت إدارة "أردوغان"، تحديا كبيرا للمملكة، من خلال تقديم نموذج إسلامي بديل، كما تقول "مضاوي الرشيد"، الأستاذة السعودية في كلية لندن للاقتصاد، ومؤلفة كتاب "تاريخ المملكة العربية السعودية". وقالت: "إنها تهديد وجودي للمملكة العربية السعودية، بسبب المزيج التركي الإسلام والديمقراطية حيث يحكم أردوغان جمهورية لديها برلمان وأحزاب معارضة ومجتمع مدني، في حين ليس لدى المملكة مثل هذا الأمر".

وفي الواقع، تعد السعودية اليوم ملكية مطلقة. وهي أيضا الدولة الثالثة التي يديرها "آل سعود" منذ تحالف الأسرة مع رجل الدين المتشدد "محمد بن عبدالوهاب"، الذي احتشد بدو شبه الجزيرة العربية تحت راية عقيدته الصارمة التي لا هوادة فيها (المعروفة باسم الوهابية) عام 1745.

وتعد تركيا هي السبب الرئيسي في أن الدولتين السعوديتين السابقتين لم تعودا موجودتين.

وكانت الدولة الأولى قد اختفت حينما استولت فرقة عسكرية عثمانية، مؤلفة في معظمها من الجنود الأتراك والألبان، على العاصمة السعودية "الدرعية"، في ضواحي الرياض، في 11 سبتمبر/أيلول عام 1818، وتم تدمير المدينة. ووقد أسر السلطان التركي الأمير السعودي "عبدالله بن سعود" وأرسله إلى إسطنبول، إلى جانب رجل الدين الوهابي الرئيسي. وبعد قطع رأس الملك السعودي المخلوع خارج "آيا صوفيا"، تم ترك جثته علنا ​​لمدة ثلاثة أيام مع رأسه المقطوع تحت ذراعه. وبالنسبة للإمام الوهابي، تم إرساله إلى بازار في إسطنبول مع رأس مقطوعة.

وفي أعين العثمانيين، كان السعوديون قتلة متعطشين للدماء، نهبوا مدينة كربلاء المقدسة في العراق العثماني، وذبحوا 4 آلاف نسمة من السكان المدنيين (معظمهم من الشيعة)، ودمروا لاحقا العديد من الأضرحة في مكة والمدينة. وللاحتفال بوفاة الدولة السعودية وتحرير المدينتين المقدستين، أفرج السلطان العثماني عن جميع المدينين في سجون مملكته.

وفي العقود التالية، أعاد فرع مختلف من "آل سعود" بناء "الدرعية"، واستعاد معظم شبه الجزيرة العربية، مما دفع إلى غزو عسكري عثماني آخر عام 1871. وتحرك العثمانيون بسرعة إلى أسفل على ساحل الخليج العربي، وحرموا هذه الدولة السعودية الثانية من جزء كبير من الأراضي، واستردوا الأراضي الشرقية التي تم العثور فيها لاحقا على معظم نفط المملكة. وعلى مدى الأعوام القليلة التالية، أنهت قبيلة عربية موالية لتركيا ما تبقى من المملكة السعودية الثانية.

ولا يعد كل هذا تاريخا قديما. فوالد الملك السعودي الحالي "سلمان"، ومؤسس الدولة السعودية الحالية، الملك "عبدالعزيز"، انتقل من كونه تابعا للعثمانيين إلى القتال ضد الأتراك أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما ساعد على طردهم من الجزيرة العربية إلى الأبد. وقد شارك بعض أعمام الأمير "محمد بن سلمان" في تلك المعارك ضد الأتراك وحلفائهم المحليين.

تجدد الصراع

ولقد عمل السعوديون جاهدين منذ ذلك الحين لإزالة ما تبقى من آثار ماضي بلادهم العثمانية. وفي عام 2002، دمروا قلعة أجياد التاريخية في مكة، وهي واحدة من العديد من المباني العثمانية القديمة التي خضعت للتدمير من قبل السعودية. ولن تنسى العائلة المالكة السعودية أبدا كيف جاء الجنود العثمانيون (الأتراك) مرتين ودمروا دولتهم. ويقول "عبدالخالق عبدالله"، أستاذ العلوم السياسية البارز في الإمارات: "إن الناس يميلون إلى نسيان الأمر في الأوقات الجيدة، لكنه يعود للذاكرة مرارا وتكرارا".

وبالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، فقد كان لها خلاف مع "أردوغان" في ديسمبر/كانون الأول الماضي؛ بسبب السجل العثماني للسعودية، بعد أن قام وزير الخارجية الإماراتي بإعادة نشر تغريدة تتهم "فخر الدين باشا"، آخر حاكم عثماني للمدينة، بالنهب. وكان لدى الحاكم مكتبة قديمة في المدينة تم شحنها إلى إسطنبول قبل أن يتم حصار المدينة في التمرد العربي، قبل أن يرفض الاستسلام، ويأمر الجنود الأتراك الجوعى بالعيش على الجراد، حتى بعد أن أقر السلطان العثماني بالهزيمة عام 1918. وشكا "أردوغان" من "وقاحة الوزير الإماراتي"، وأعادت أنقرة تسمية الشارع الذي تقع فيه سفارة الإمارات باسم "فخر الدين باشا" الذي تعتبره تركيا بطل حرب.

وحتى وفاة "خاشقجي"، كان التحالف بقيادة السعودية الأقرب للولايات المتحدة. وبدا أن مصر هي الأخرى في الجانب نفسه في المنطقة، مع قدرة تركيا على الاعتماد فقط على قطر، وربما السودان. وجزئيا، كان ذلك بسبب الرهان المبكر للرئيس "دونالد ترامب" على "بن سلمان"، وهو حجر الزاوية في استراتيجيته لاحتواء إيران. وكان أيضا نتيجة لخطوات "أردوغان" الخاصة، مثل مبادراته مع إيران وروسيا، وقراره بسجن القس الأمريكي "أندرو برونسون"، بينما كان يسعى لتسلم رجل دين مقيم في "بنسلفانيا" تتهمه تركيا بتنظيم محاولة انقلاب عام 2016، وقد أدى كل ذلك إلى تباعد بين أنقرة وواشنطن.

والآن، مع قضية "خاشقجي" التي أشعلت الغضب العالمي، استغل "أردوغان" الفرصة. وقد سمح إطلاق تركيا الأخير لـ"برونسون" بتحسن العلاقات مع واشنطن. وفي غضون ذلك، أجبرت سلسلة من التسريبات من قبل المسؤولين الأتراك السعودية، التي أصرت في البداية على أن "خاشقجي" قد خرج من القنصلية على قيد الحياة، للاستسلام للأمر المحرج، والاعتراف بأن الصحفي قد قُتل بالفعل من قبل فريق تم إرساله خصيصا لذلك وداخل مبانيها الدبلوماسية الخاصة. وأقال السعوديون اثنين من كبار المسؤولين المقربين من ولي العهد بسبب الحادث، واستمروا في التراجع قائلين يوم الخميس إن القتل متعمد، وليس كما ادعت المملكة في البداية أنه حدث عرضا بسبب "شجار".

ويطلب "أردوغان" محاكمة السعوديين المشتبه بهم في تركيا، وأشار في حديثه واتهامه إلى أعلى المستويات في الدولة السعودية. وعلى الرغم من أن "أردوغان" لم يتهم "بن سلمان" صراحةً بقتل "خاشقجي"، إلا أن أقرب مساعدي الزعيم التركي قاموا بذلك بالضبط. وقد كتب "سعدت أوروك"، أحد كبار مستشاري "أردوغان"، في صحيفة تركية هذا الأسبوع: "بن سلمان هو أحد المتهمين بالقتل، وتواجه المملكة العربية السعودية الأزمة الأكثر صعوبة منذ تأسيسها". وقال مستشار آخر لـ"أردوغان"، وهو "إلينور شفيق": "يقطر دم خاشقجي من يدي الأمير محمد بن سلمان، وسيبقى قتله لعنة على الأمير".

ويبدو أن هدف "أردوغان" هو جعل "بن سلمان" غير قابل للاستمرار على المسرح العالمي. وربما يكون أكثر طموحا، حيث يأمل في الضغط على والد الأمير، الملك "سلمان"، ليقوم بإعداد وريث آخر للعرش. وقال "سنان أولجن"، رئيس مركز "إيدام" للأفكار في إسطنبول: "تريد تركيا في نهاية المطاف تقويض نفوذ بن سلمان عالميا وإقليميا، وإلى أقصى حد ممكن محليا. وبالفعل، لقد تلطخت صورته كزعيم إصلاحي".

وكان "بن سلمان"، الذي أجرى مكالمة هاتفية مع "أردوغان" يوم الأربعاء، قد أصر في أول ظهور علني له منذ وفاة "خاشقجي" بأن العلاقات بين تركيا والمملكة العربية السعودية تظل ممتازة. وأضاف أنه طالما بقي الملك "سلمان" و"أردوغان" في السلطة، فلن يتمكن أحد من دق إسفين بين الدولتين الشقيقتين.

لكن في أنقرة، لا تزال الذكريات حية حول قيام ولي العهد السعودي قبل بضعة أشهر فقط في زيارة لمصر، بوصف "أردوغان" صراحة كجزء من "مثلث الشر"، إلى جانب إيران والمتطرفين في تنظيم "الدولة الإسلامية".

ومع ذلك، وبفضل قضية "خاشقجي"، يمكن لتركيا في عهد "أردوغان" أن تدّعي انحيازا أخلاقيا، وهي نعمة كبرى لطموحات أنقرة الإقليمية.

وقال "ستيفن كوك"، الزميل البارز في شؤون الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن: "تعد إحدى المفارقات المثيرة للدهشة في هذه الحلقة بأكملها هي كيف أصبحت تركيا التي تسجن الصحفيين نموذجا لحرية الصحافة وحماية الصحفيين وكيف تحولت إلى مصدر للاستقرار الإقليمي مقارنة بالسعوديين المتهورين".

  كلمات مفتاحية

جمال خاشقجي العلاقات السعودية التركية التنافس الإقليمي إيران محمد بن سلمان