أقلية عراقية نزيهة ... في معرض الابتلاع!

الاثنين 10 أغسطس 2015 07:08 ص

في مهرجان النهب العراقي الحافل، استمر المدنيون (العلمانيون، المثقفون، الناشطون) خارج حسابات القوى الدينية التي غمزت مراراً وتكراراً في وصف هؤلاء بأنهم ليسوا سوى «أقلية» غير مؤثرة، حتى أثبتوا أن بمقدورهم تحريك الشارع العراقي في تظاهرات تغلق بوجهها شوارع المدن وتحشد الحكومة من أجلها جيوشاً مدججة بالسلاح.

التظاهرة التي نفذها الشباب المدنيون في ساحة التحرير ببغداد في 31 يوليو/تموز الماضي، ورفعت شعار الاحتجاج على الفساد، أثبتت حقائق بالجملة، أهمها أن الحكومة التي تسيطر عليها القوى الدينية تخشى المثقفين، فتغلق نصف بغداد لمنع المتظاهرين من الوصول إلى ساحة التظاهر، فيما تنظم قوى دينية تظاهراتها ومهرجاناتها في أي مكان ترغب فيه، وتحشد الدولة أساطيل وزارة النقل العراقية لنقل المتظاهرين، مثلما توفر لهم خاصية حمل السلاح.

ببساطة إن القوى الدينية بأجنحتها المسلحة هي «السلطة» الحقيقية في العراق، وهي الطرف الحاكم طوال السنوات الماضية، وهي من يمكن أن تتوجه اليه مطالب التظاهرات المدنية، وإلا فإن الجميع يشترك في حجب الحقيقة.

إلى حين نجاح تظاهرة بغداد وامتدادها طوال الاسبوع اللاحق لمعظم المدن العراقية، كانت الرسالة واضحة: «المدنيون غير المنظمين وبعفوية صادقة، هم الأكثر نزاهة في هذا البلد، وهم الأقلية الوحيدة القادرة على حشد الشارع العراقي، والتأثير في خياراته المستقبلية».

لكن، فجأة، أعلنت الأجنحة الدينية المسلحة التي انخرطت في «الحشد الشعبي»، أنها ستنزل إلى الشارع مع المدنيين في تظاهرة واحدة، يوم الجمعة 7 أغسطس/آب، ووضعت عنوان «الحشد المدني» لهذه المشاركة.

انقسم الشارع الثقافي والمدني العراقي على نفسه، فاختار بعضهم الاعتذار العلني عن الخروج في هذه التظاهرة، وتمسك آخرون بها تحت بند «تحالف انتقالي لإنقاذ البلد» وهو بالمصادفة البلد نفسه الذي ضيعته قوى الإسلام السياسي، وعاثت فيه، وامتصت خيراته، قبل أن تسلم نصفه في نهاية المطاف إلى «داعش».

فتوى المرجع الديني الأعلى السيد «علي السيستاني» (الجهاد الكفائي) التي انتجت «الحشد الشعبي» كانت مناسبة كبيرة لإحداث انتقالة جديدة لعدد من القوى الدينية والشخصيات الحكومية السابقة، على قاعدة أن المجرب يمكن أن يجرب مراراً وتكراراً، وينتقل من خانة الفاشل والمبدد والفاسد، إلى خانة البطل والمجاهد، فلم يكن الأمر يتطلب أكثر من أن يقرر سياسي ارتداء «الكاكي» وأخذ السيلفي في جبهات القتال، أو تشكيل مجموعة عسكرية يتم ضمها إلى «الحشد» الذي تعددت عناوينه وتكاثرت لتشمل بالاضافة إلى المتطوعين الصادقين، كل الوسط السياسي الذي حكم العراق لحظة تسليمه إلى «داعش»!

ولأن العراق مصنع تجارب، فإن للقادة الكبار الذين تسلموا القرار العسكري حق التفكير بمستقبلهم السياسي، فلا فائدة من تضحيات الحشود التي اندفعت إلى ساحات القتال إذا لم تترجم إلى أرقام سياسية اليوم وليس غداً، وحتى قبل تحرير الارض بكاملها من «داعش»، وكان من المنطقي أن يسمع العراقيون تسريبات عن انقلاب عسكري مرتقب، وأن يثقف بعض رجال الدين بتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي.

صمت الجميع، ومن ضمنهم رؤوس الدولة، وهم يراقبون تنامي طموحات قيادات الفصائل المسلحة، وصمت المدنيون أيضاً، خشية أن يتهموا بالتآمر مع «داعش» أو خيانة «المرجعية». صمتوا عندما حاولوا التساؤل عن مصير فتوى السيد «السيستاني» بحصر التطوع في صفوف الجيش والشرطة. وعندما بدأت التجاوزات والاعتداءات تتوالى وتنقل بصور واشرطة فيديو، وصمتوا عن تصاعد التضارب بين قيادات الفصائل والجيش، والقائد العام للقوات المسلحة.

بل إن المدنيين اختاروا أن يرفعوا شعار «حشد يحارب داعش، وحشد يحارب الفساد» لإثبات أنهم منسجمين مع «الحشد الشعبي» وليسوا متقاطعين معه، وحتى لا يتم استخدام القتال مع «داعش» مبرراً للفساد وحرمان السكان من حقوقهم الطبيعية بالتظاهر.

واقع الحال، أن عراقيين كثراً يثمنون عالياً تضحيات «الحشد الشعبي» ودوره الكبير في صد تمدد «داعش» بل وتقليص نفوذه واستعادة مدن مهمة من بين براثنه في ديالى وصلاح الدين وجنوب بغداد، كما أنهم يدركون أن هؤلاء الشباب المتطوعين، هم أبناء المجتمع نفسه الذي أذلته سياسات القوى الدينية وأجهضت طموحه ببناء دولة متمكنة وحرة وغير تابعة وقادرة على اللحاق بالمستقبل.

لكن لماذا يتظاهر المدنيون؟ ولماذا يجب أن يتظاهروا بعنوانهم فقط؟ ولماذا عليهم ألا يسمحوا لقوى السلطة المختلفة بركوب احتجاجاتهم؟

فأما أن يتظاهر المدنيون، فإنهم يتظاهرون للمطالبة بسياق سليم يحفظ وحدة الدولة ويصون كرامة شعبها، ويدفع باتجاه تمكين هذا الشعب من ممارسة اختياراته الوطنية بعيداً عن التأثيرات الدينية والطائفية والانحيازات الاثنية والعرقية.

على هذا الصعيد يمكن الإشارة إلى أن القوى السياسية فشلت على رغم الفرص المتعددة في إنتاج أي خطة مقبولة لإدارة البلاد، فرفضت الاعتماد على الكفاءات، واختارت أن تعتمد على شخصيات مأزومة تفتقر إلى الحكمة جرت البلاد إلى نفق الطائفية والفساد. عندما يتظاهر المدني رافعاً راية وطنه، فإنه في الواقع يتظاهر ضد كل من ساهم في تحويل هذه الراية إلى رايات ... وأيضاً ضد كل من احترف التمزيق كمهنة، ويريد اليوم تقمص دور الخياط! لأن براميل النفط لم يعد بمقدورها تمرير مهرجانات الفشل.

في لحظة حكومة «العبادي»، كان على القوى التي شاركت في صوغ آخر فرص الإصلاح، أن تنتبه لفداحة الخسارة التي ألحقتها بالعراق خلال السنوات الماضية، وكان عليها أن تتدارك عبر قائمة من الحلول والمعالجات والتنازلات، بإصلاحات عميقة ومؤلمة ومصارحات خادشة وخطوات عملية صادمة، تنقذ ما يمكن إنقاذه لكنها لم تفعل.

ليس على الأقلية المدنية الكبيرة بتأثيرها، أن تنتظر بدورها أن يصدر قرار الاصلاح من خارج الحدود، وحسناً فعلت بوضع الجميع أمام حقيقة فشل الطبقة السياسية التي أدارت شؤون هذا البلد للسنوات الماضية.

نظرياً، كان يمكن للحراك المدني المتواصل أن يجبر قوى السلطة والمال والسلاح والقيادات الدينية في البلاد أن تركن إلى الحوار المسؤول والصريح مع المدنيين وصولاً إلى شراكة صعبة تضمن المستقبل، لكن عملياً وكأي حراك اجتماعي غير منظم ويفتقر الى الخبرة سرعان ما اهتز وارتبك فأصبح بمعرض الابتلاع، ليؤجل معركة مدنية الدولة إلى وقت آخر، بانتظار أن تحسم قوى الإسلام السياسي معارك أجنحتها وأحزابها ومنافسات أقطابها للوصول إلى السلطة.

  كلمات مفتاحية

العراق الفساد العبادي السنة الشيعة الأقليات تظاهرة الحشد الشعبي الدولة الإسلامية

تجربة العراق ... لبنانيا: الحكم الفاسد يُسقط الدولة

بدء التحقيق مع نائب رئيس الحكومة العراقية «بهاء الأعرجي» في تهم «فساد»

«العبادي» يلغي مناصب حكومية كبيرة ويطيح بـ«نوري المالكي»

مظاهرات حاشدة في العراق ضد الفساد ومجلس النواب يقرر استجواب وزراء

من يخسر لعبة الشرق الكبرى؟