أزمة حزب الله بعد انفجار بيروت.. بين السخط الشعبي المتزايد وقبضة إيران القوية

الأحد 30 أغسطس 2020 05:40 م

هناك جانب إيجابي واحد للانفجار الذي دمر أجزاء من بيروت في 4 أغسطس/آب، وهو احتمالية أن يحفز ذلك جهودًا متواصلة لإعادة تشكيل النظام السياسي في لبنان.

لكن هناك تحديات أمام هذا التغيير؛ أولها هو قناعة الطبقة الحاكمة بأن بقاءها السياسي يعتمد على الحفاظ على نظام تقاسم السلطة الممزق.

أما العقبة الثانية فهي البيئة الإقليمية، حيث تسعى إيران وسوريا والإمارات والسعودية إلى ضمان عدم تحول ميزان القوى الهش في لبنان بطرق يمكن أن تقوض مصالحهم الجيوستراتيجية.

ولعل التحدي الذي يواجه كل هذه البلدان - وحلفاءها اللبنانيين - هو كيفية تأمين علاقاتهم في مواجهة المطالب الشعبية في لبنان لإعادة هيكلة سياسات البلاد.

لقد أدى انفجار مرفأ بيروت إلى تفاقم هذه المعضلة الشائكة، ومع ذلك، يبقى أن نرى كيف سيكون رد فعل اللاعبين المحليين والإقليميين الرئيسيين بينما يستجيب المجتمع الدولي للكارثة الإنسانية التي يواجهها لبنان.

من بين كل هؤلاء، فإن إيران تبدو أكثر الخاسرين حيث إن مصالحها الجيوستراتيجية تعتمد على حماية علاقتها مع "حزب الله".

وفي مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة، يتعين على "حزب الله" وطهران التعامل مع التحدي الأساسي المتمثل في حماية علاقتهما الحيوية مع تجنب الخطوات التي قد تؤدي إلى زيادة تآكل مصداقية "حزب الله" المحلية.

وتلعب الطريقة التي يسير بها الجانبان في هذا المسار الصعب دورا مهما في الدراما التي تتكشف لتشكيل النظام الطائفي في لبنان.

المنطق الاقتصادي للبقاء السياسي في النظام الطائفي

ساعد عاملان محليان على الأقل في الحفاظ على هذا النظام؛ الأول هو خوف جميع القادة الرئيسيين من عودة الحرب الأهلية مرة أخرى، والثاني هو الترابط الوثيق بين الاقتصاد والطائفية.

يتمحور تقاسم السلطة في لبنان حول وقف إطلاق نار طويل الأمد بين 18 جماعة طائفية، حيث تم تقاسم السلطة بين الطوائف لأن كل طائفة تفترض أن النظام الديمقراطي الحقيقي سيمنح منافسيها الوسائل والأصوات لفرض أجنداتهم المحلية والأجنبية على البلاد.

وبعيدًا عن الخوف، فإن ما يجمع النظام معًا هو قدرة جميع القادة على استخدام الأموال العامة والخاصة لشراء الدعم السياسي من أتباعهم، وقد تم ممارسة السلطة من خلال نظام رعاية واسع وفاسد للغاية مدعوم جزئيًا من قبل الحكومات الأجنبية، وكانت التكاليف المترتبة على هذا النظام مسؤولة جزئيًا عن تضخم الدين العام في لبنان، والذي يبلغ أكثر من 90 مليار دولار.

وقد لعب مرفأ لبنان دورا في هذا النظام، ولأنه يقع في قلب اقتصاد الاستيراد والتصدير الذي يوفر للبنان 80% من بضائعه، فقد تم تقسيم السيطرة على المرفأ بين فصائل مختلفة، وتسمح إقطاعيات المرفأ لكل مجموعة بتأمين المكافآت قبل دخول البضائع إلى البلاد، ما يوفر قناة مربحة من المحسوبية والفساد.

وبالتالي فليس من المستغرب عدم اتخاذ أي إجراء تجاه المطالبات بتحقيق في أطنان نترات الأمونيوم المخزنة في الميناء منذ 2014، حيث كان من الممكن أن يؤدي القيام بذلك إلى تعريض جميع الفصائل للتدقيق من قبل حكومة كانت متواطئة جزئيًا في المشكلة في المقام الأول.

نزل عشرات الآلاف من اللبنانيين إلى الشوارع للاحتجاج على الفساد الهائل والدعم الخارجي الذي غذى هذا النظام.

ومع ذلك ، لا يوجد نظام بديل ينقذ البلاد من الخراب المالي ويمنع في نفس الوقت أيضًا تلك الجماعات من توجيه أسلحتها إلى آلاف اللبنانيين الذين تحدوا بشجاعة النخبة الحاكمة في سعيهم من أجل ديمقراطية حقيقية.

العلاقات الخارجية الخطيرة

ترتبط قدرة الزعماء الطائفيين في لبنان على الحفاظ على نظام المحسوبية ارتباطًا وثيقًا بصلاتهم المالية والسياسية والجيواستراتيجية مع اللاعبين الخارجيين ويمكن لهذه العلاقات أن تكون خطيرة بل وقاتلة.

وساعدت جهود رئيس الوزراء الراحل "رفيق الحريري" لتعزيز علاقاته السياسية والتجارية مع السعودية ودول أخرى (بما في ذلك فرنسا) على تمهيد الطريق لتفجير فبراير/شباط 2005 الذي أنهى حياته مع 21 آخرين.

افترض ابنه "سعد" افتراضا منطقيا أن عملاء من إيران وسوريا و"حزب الله" هم من دبروا الاغتيال، لذلك قرر تجنب الدبلوماسية الإقليمية المحفوفة بالمخاطر التي اتخذها والده والرضوخ لضغط "حزب الله" من أجل الحصول على منصب قيادي في الحكومة.

وقد أثارت سياسة "الحريري" غضب السعودية خاصة ولي العهد "محمد بن سلمان"، الذي احتجز "الحريري" كرهينة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017.

لكن رهان "بن سلمان" على أن هذه الخطوة الجريئة من شأنها ردع إيران و"حزب الله" لم تؤد إلا إلى تعزيز عزم الحزب على ترسيخ الموقف السياسي له، عبر تحالف غير مستقر بين "حزب الله" والرئيس اللبناني "ميشال عون".

استخدم "حزب الله" النفوذ الذي منحه له هذا التحالف لحماية علاقته الخاصة مع إيران، حيث تمتد هذه الشراكة إلى ما هو أبعد من المجالات العسكرية والجيواستراتيجية، فبدعم من إيران (يقدر بنحو 700 مليون دولار سنويًا) تمكن "حزب الله" من السيطرة على الكيانات الاقتصادية والحكومية الرئيسية، مثل وزارة الصحة، وهو الأمر الذي منح الحزب مصدرًا حيويًا للمحسوبية.

وقد تعزز النفوذ الاقتصادي للحزب بشكل أكبر من خلال عمليات التهريب عبر الحدود اللبنانية السورية، والأموال المكتسبة من شبكة الشركات المرتبطة بـ"حزب الله"، وكما تظهر تقارير أرباحا هائلة من مبيعات المخدرات العالمية وعمليات غسيل الأموال ذات الصلة.

ولا يمكن لأي فصيل لبناني أن يضاهي هذه الموارد الهائلة، وهي حقيقة أكسبت "حزب الله" الاحترام والازدراء في ذات الوقت.

في الواقع، يتصارع قادة "حزب الله" على الأعمال المحفوفة بالمخاطر والتي من شأنها حماية علاقاتهم المالية والسياسية والاستراتيجية مع طهران ودمشق بينما يستمرون في التأكيد على أن الحزب لاعب وطني ملتزم بسيادة لبنان.

"حزب الله" يدافع عن أرضه

إذا كان انفجار المرفأ قد أدى إلى تعقيد قدرة "حزب الله" على السير على هذا الخط الرفيع، فقد عانى من عدة انتكاسات قبل الانفجار.

ظهرت إحدى العقبات في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020 عندما حاول الحزب قمع الاحتجاجات العامة، والتي تضم بعضها أفراد المجتمع الشيعي.

أما الحدث الآخر فقد وقع في مايو/أيار 2019، عندما خفض "حزب الله"، في أعقاب العقوبات التي فرضتها إدارة "ترامب"، تمويل ميليشياته المكونة من 20 ألفا إلى 30 ألف جندي نظامي، وكادره الضخم من الموظفين المدنيين، ومحطته التليفزيونية "المنار".

بعد عام تقريبًا، فرض البيت الأبيض مجموعة جديدة من العقوبات تحت اسم قانون "قيصر" والتي قوضت قدرة "حزب الله" على استخدام مصرف لبنان المركزي لتأمين السلع الأساسية ومن بينها الوقود، بأسعار مدعومة، ليهربه بعد ذلك إلى  حليفه في دمشق.

وبعد شهر واحد، وضعت إدارة "ترامب" عضوين من أعضاء "حزب الله" في البرلمان على القائمة السوداء للعقوبات، ما رفع العدد الإجمالي لقادة "حزب الله" إلى 50.

في حين أنه من الصعب التقييم الدقيق لآثار هذه العقوبات على الاقتصاد اللبناني، فإن تأكيدات "حسن نصرالله" أن العقوبات الأمريكية "تجويع لسوريا ولبنان" لم تكن بعيدة تمامًا عن الحقيقة.

لكن الذي أثار ذعر قادة "حزب الله"، أن العقوبات الأمريكية غذت قناعة عدد متزايد من الناشطين السياسيين - بما في ذلك شرائح من المجتمع الشيعي - بأن "حزب الله" مسؤول إلى حد كبير عن معاناة لبنان.

بالنظر إلى هذه الأوضاع، فليس من المستغرب أن ينكر قادة "حزب الله" بشدة أي مسؤولية عن انفجار 4 أغسطس/آب، وقال "نصرالله": "ننكر بشكل قاطع الادعاء بأن حزب الله لديه مخبأ أسلحة أو ذخيرة أو أي شيء آخر في الميناء"، محذرا خصومه من أنهم "لن يحققوا أي نتيجة" من خلال إلقاء اللوم على الحزب.

وأضاف "نصرالله" تهديدًا ضمنيًا، قائلا: "حزب الله أعظم وأنبل من أن يسقطه بعض الكذابين والمحرضين الذين يحاولون الدفع باتجاه حرب أهلية".

في الوقت نفسه، دعا "نصرالله" إلى تحقيق كامل واستنكر الفساد والمحسوبية التي أدت إلى الحادث الضخم.

لكن هذه الرسائل المتضاربة لم تؤد إلا إلى غضب المتظاهرين، الذين حمل بعضهم دمى لـ"نصر الله" مع حبل حول رقبته وهم يقتحمون الوزارات الحكومية.

وبالرغم من هذا الغضب، لم ينطق "نصرالله" بكلمة واحدة توحي بأنه قد يدعم مطالب المحتجين بتغيير سياسي شامل، ولن تؤدي استجابته إلى تلك المطالب إلى تقويض النظام السياسي الذي تستند إليه سلطة "حزب الله" فقط، ولكنه سيخلق أيضًا ذعرًا عميقًا داخل قيادة الحزب وكذلك القاعدة الاجتماعية.

فبينما دعا أتباعه إلى إصلاحات لمحاربة الفساد، ظلوا ملتزمين بقوة ببقاء "حزب الله" كأكبر وأقوى ميليشيا وحركة سياسية في لبنان.

إن الحكم الصادر في 18 أغسطس/آب عن محكمة الأمم المتحدة الخاصة المكلفة بالتحقيق في مقتل "رفيق الحريري" عام 2005 لن يغير مثل هذه الحسابات، على العكس من ذلك، فإن قرار المحكمة بإدانة عنصر واحد فقط من "حزب الله" سوف يطمئن "نصرالله" إلى أنه يستطيع الاستمرار في التشدق بدعوات الإصلاح مع اتخاذ الخطوات الضرورية للحفاظ على الوضع الراهن.

من جهتها، تريد إيران الظهور كمدافع عن المجتمع اللبناني مع ضمان بقاء حليفها "حزب الله" القوة السياسية والعسكرية المهيمنة في البلاد، ففي أعقاب الانفجار، حذر متحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية من أن "بعض الدول" تحاول "تسييس الانفجار لمصالحها الخاصة"، وأصر على أن "الانفجار لا ينبغي أن يستخدم كذريعة لأهداف سياسية"، وهي إشارة لبواعث قلق إيران الأساسية، وهي أن هذه الجهود تهدف إلى تقويض حلفاء إيران في لبنان.

وجاءت هذه التصريحات بالتزامن مع تصريحات للرئيس "حسن روحاني" ووزير الخارجية "محمد جواد ظريف" للتأكيد استعداد إيران لتقديم مساعدات إنسانية.

وفي زيارة "ظريف" لبيروت في 14 أغسطس/آب والتي أكد خلالها أن "دولة وشعب لبنان يجب أن يقررا مستقبل لبنان وكيفية دفع الأمور إلى الأمام" أبرز "ظريف" الواقعية البراجماتية.

وفي الواقع، قد يرى "روحاني" و"ظريف" في الأزمة اللبنانية فرصة لإعادة تأكيد دورهما في تحديد دبلوماسية إيران الإقليمية، لكن مع تصاعد التوترات الأمريكية الإيرانية، ليس لدى إيران مجال واسع مجال للمناورة.

وفي تناقض حاد مع الرسائل المذكورة أعلاه، صاغ قائد الحرس الثوري "حسين سلامي" موقف إيران من منظور إيديولوجي واضح وحتى طائفي، حيث قال: لأنهم "نجوم المقاومة الكبار في العالم الإسلامي"، فإن "كل قدراتنا ستُحشد لمساعدة الشعب اللبناني".

بالنسبة للحرس الثوري الإيراني، يجب أن تكون مصالح الشعب ومصالح المقاومة (أي حزب الله) غير قابلة للتجزئة، وبالتالي، من وجهة نظر الحرس الثوري، فمن الضروري ضمان توزيع المساعدات الإنسانية الإيرانية في لبنان بطرق تعزز موقف "حزب الله".

ومع تشريد حوالي 300 ألف شخص بسبب الانفجار، والانتشار المتصاعد لـ"كورونا"، والانهيار الجزئي للنظام الصحي، تراجعت قدرة الحزب على الاستفادة من المساعدة الإيرانية، ومع ذلك، بالنسبة للحرس الثوري، فإن بقاء "حزب الله" والنظام السياسي يمثل أولوية وجودية.

آمال بسياسة أمريكية جديدة؟

أظهرت زيارة الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" إلى بيروت في 6 أغسطس/آب مفارقة الإصلاح في لبنان.

ففي غضون ساعات من إعلانه ضرورة تغيير النظام السياسي بأكمله، أجرى "ماكرون" محادثات مع جميع قادة الفصائل الرئيسية، وكما هو الحال في المجتمعات المنقسمة الأخرى، يتحكم الزعماء السياسيون أنفسهم الذين حافظوا على النظام في لبنان بعملية التغيير بالرغم من أن إشراكهم يمنحهم وسيلة لعرقلة التغيير.

وهذا هو مأزق لبنان.

في حين أنه لا يوجد حل سهل لهذه المعضلة، فإن احتمالات التغيير ستبقى ضعيفة طالما أن الدول الأجنبية تدعم قادة الفصائل اللبنانية دون قيد أو شرط. لذلك المطلوب هو جهد دبلوماسي متعدد الأطراف يقلل من حوافز القوى الأجنبية - ليس أقلها إيران والولايات المتحدة - لخوض نزاعاتها الجيوستراتيجية من خلال ساحة التنافسات الطائفية في لبنان.

ويمكن للحد من هذه التوترات الإقليمية أن يوفر سياقًا ضروريًا - وإن لم يكن كافياً - لتعزيز الحوار الداخلي الذي تشتد الحاجة إليه في لبنان حول كيفية تجاوز المأزق الحالي.

في الوقت الحالي، تبدو آفاق هذا النوع من الدبلوماسية قاتمة، فبعد أن فشلت في الحصول على دعم مجلس الأمن الدولي لتجديد حظر الأسلحة المفروض على إيران، تقترح إدارة "ترامب" الآن إعادة فرض عقوبات من داخل الاتفاق النووي.

وتصب هذه السياسة في مصلحة المتشددين الإيرانيين و"حزب الله"، وكلاهما يريد تجنب صراع عسكري مع الولايات المتحدة و(إسرائيل) مع استمرار جني الفوائد السياسية للتوترات الأمريكية الإيرانية المستمرة.

تشير تقارير في الصحافة الأوروبية مؤخرا إلى وجود صلة غير مباشرة بين "حزب الله" وشراء المواد الكيماوية التي انفجرت في 4 أغسطس/آب ما سيبقي "حزب الله" في موقف دفاعي بينما يشجع منتقديه المحليين. ومن المؤكد أن هذه التطورات ستؤجج الصراعات الداخلية في لبنان.

لعل أفضل ما يمكن أن نأمله الآن هو بذل جهود جبارة من قبل المجتمع الدولي لمساعدة لبنان على تجاوز أزمته الإنسانية، وقد تؤدي الانتخابات الأمريكية التي ستُجرى في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أيضًا إلى إحياء المحادثات بين إيران والولايات المتحدة والمجتمع الدولي.

وحتى لو فازت إدارة ديمقراطية، فإنه لا يزال يتعين عليها التعامل مع نظام إقليمي يستثمر بشكل كبير في القادة الذين يريدون الحفاظ على النظام السياسي في لبنان عن طريق التحايل والطرق الملتوية.

المصدر | دانيال برومبرج | المركز العربي واشنطن دي سي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

حزب الله اللبناني مرفأ بيروت النظام السياسي اللبناني

من أين حصل ترامب على معلوماته حول انفجار بيروت؟

لعلاقتهما بحزب الله.. عقوبات أمريكية على وزيرين سابقين في لبنان

مصنع صواريخ قرب مطار بيروت.. نتنياهو يتهم وحزب الله ينفي

حزب الله يجدد مقترحه بتأمين محروقات لبنان من إيران