الوطن الأزرق.. هكذا تغيرت الاستراتيجية العسكرية التركية في شرق المتوسط

الأحد 30 أغسطس 2020 09:42 م

يبدو أن تركيا أدخلت نفسها بطريقة أو بأخرى في كل ركن من أركان الشرق الأوسط، ففي شمال العراق وسوريا، تحاول إقامة مناطق عازلة لمنع المتمردين من اختراق حدودها.

وفي القوقاز، تحاول حماية سلاسل إمداد الطاقة الحيوية ومواجهة النفوذ الروسي، وفي الصومال وقطر، تدير تركيا قواعد مشتركة وتوفر برامج تدريب عسكرية للحفاظ على موطئ قدم في القرن الأفريقي والخليج.

أما في البحر الأسود الذي اكتشفت فيه مؤخرًا احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، فإنها ستكون أكثر حزمًا لتأمين قدرتها على الوصول إلى الموارد.

لكن المسرح الأكثر حيوية بالنسبة لتركيا هو شرق البحر الأبيض المتوسط، فقد أصبح محور تركيز تركيا لما يمثله من أهمية في مجال الطاقة والفرص التجارية، كما يمثل موقفًا دفاعيًا استباقيا لتركيا بحيث لا يحمي المصالح التركية الحالية فحسب، بل يوسعها.

وفي الوقت ذاته، تعد التعزيزات البحرية التركية طموحة، فقد استثمرت أنقرة رأس مال كبير في ترسيخ موطئ قدم أكبر في البحر الأبيض المتوسط، عبر عمليات الحفر قبالة سواحل قبرص والجزر اليونانية، والتدخل في صراعات مثل الحرب في ليبيا، واعتماد دبلوماسية الزوارق الحربية ضد المنافسين الإقليميين من أجل استعادة الهيمنة البحرية.

ومع ذلك، فإن تركيز تركيا المباشر أقرب إلى أراضيها، حيث يتمثل في ردع التهديدات التقليدية على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط.

وستضمن القيود العملياتية في جنوب البحر الأبيض المتوسط، والتحديات اللوجستية، والتقييدات الاقتصادية والدفاعية، والتهديدات التقليدية المتزايدة أن تظل تركيا في الوقت الحالي في حالة تركيز على فنائها الخلفي، ولن يمكنها ذلك من أن تصبح القوة المهيمنة في البحر الأبيض المتوسط ​​كما ترجو.

تغير الرؤية العسكرية

حين نقول إن الموقف الدفاعي لتركيا يبدو مختلفًا تمامًا عما كان عليه قبل بضعة عقود، فإن هذا لا يبدو معبرًا بشكل كاف.

ففي فترة ما قبل التسعينات، اجتمعت عوامل مثل تركيز تركيا الداخلي على اقتصادها والتحديث السياسي وتطوير البنية التحتية، جنبًا إلى جنب مع التهديد الذي يلوح في الأفق من الاتحاد السوفييتي وولائها لحلف "الناتو"، ما دفع أنقرة لاتباع اتباع خارجية قائمة على الردع بدلاً من التوسع.

لكن ذلك تغير في التسعينات، حيث بدأت تركيا والغرب في التباعد، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، تضاءل التهديد الروسي، كما تضاءلت المصالح المشتركة بين تركيا والغرب.

وتبنت القيادة العسكرية لأنقرة "إستراتيجية حربين ونصف"؛ وهي فكرة قائمة على أنها يجب أن تكون مستعدة لشن حربين، واحدة إلى الشرق والأخرى إلى الغرب في وقت واحد، بينما تخوض أيضًا "نصف حرب" مستمرة وغير تقليدية مع المتمردين الأكراد في الداخل.

ورأت الاستراتيجية بالأساس أن موقع تركيا، المحشور بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط​يمثل نقطة ضعف.

وبدأت تركيا في تبني عقيدة عسكرية أكثر استقلالية وحزمًا في القرن الحادي والعشرين، فقد أثار اكتشاف الهيدروكربونات في محيط تركيا اهتمام أنقرة، لا سيما أنها كانت تكافح من أجل تنويع مصادر الغاز الطبيعي، واحتاجت إلى قوة بحرية يمكن أن تساعد في الدفاع عن مطالبتها بالسيطرة على هذه المناطق.

واصلت تركيا الابتعاد عن الغرب وتراجعت بروكسل عن التزامها بعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، مع استمرار أنقرة في التصادم مع حلفائها في الناتو.

وزادت عودة ظهور التهديد الروسي وعدوانية إيران المتزايدة والتحالف المتنامي المناهض لتركيا في البحر المتوسط ​​ من عزلة أنقرة.

لذلك أدخلت تركيا فكرة "Mavi Vatan"، أو "الوطن الأزرق"، التي هيمنت على التفكير الاستراتيجي بين القادة العسكريين والسياسيين القوميين في تركيا.

ويؤكد هذا المفهوم أن تركيا يجب أن تعمل للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط ​​وتستعيد التفوق التجاري والبحري الذي كان يتمتع به العثمانيون ذات يوم.

وهكذا فإن هذه الاستراتيجية ترى موقع تركيا ليس نقطة ضعف، بل أحد الأصول التي تمنح الدولة عمقا استراتيجيا.

وليس الغرض من هذه الاستراتيجية توسيع النفوذ التركي في الخارج فقط، ولكن أيضًا تلبية العديد من احتياجات تركيا المحلية والمالية.

الصناعة الدفاعية

يسمح وجود بحري قوي في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​لتركيا بتأكيد مطالباتها باحتياطيات النفط والغاز في المياه المتنازع عليها هناك، ما قد يساعد أنقرة في نهاية المطاف على تحقيق استقلال الطاقة، وحتى قد تصبح مركزًا للطاقة.

ويعد تعزيز صناعة الدفاع في تركيا لتقليل اعتمادها على واردات الأسلحة -والتي غالبًا ما تأتي بشروط- عنصرًا أساسيًا في الأجندة المحلية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث أدى الاستثمار في التصنيع الدفاعي المحلي إلى ظهور موجة من الفرص المالية الجديدة للاقتصاد التركي المتعثر وعزز من مكانة تركيا في الخارج.

وبالتالي، ارتفع الإنفاق العسكري التركي بشكل كبير منذ التسعينات، وانتقلت تركيا من كونها ثالث أكبر مستورد للأسلحة إلى المرتبة 14 في تصدير الأسلحة.

وخفضت تركيا وارداتها من الأسلحة بنسبة 48% منذ عام 2015 وزادت ميزانيتها الدفاعية بنسبة 86% في العقد الماضي.

كما أطلقت تركيا أيضًا برنامج "MILGEM" الذي حظي بدعاية كبيرة والذي سيطرح طرادات وفرقاطات مبنية محليًا وغواصات من "النوع 214" وغواصات هجومية من طراز "MILDEN"، بالإضافة إلى طوربيدات وصواريخ ومعدات استشعار.

وأعلنت أنقرة أيضًا أنها ستبني 24 سفينة (4 منها فرقاطات MILGEM) وذلك بحلول الذكرى المئوية للجمهورية التركية في عام 2023.

حدود تركيا

لا تزال القدرات البحرية التركية محدودة على الرغم من هذه التطورات، وفي حين أنها تضع الأساس لامتلاك أصول بحرية قادرة على إبراز قوتها، فلا يمكن أن تمتد القدرات الحالية لإجراء عمليات وراء بحر إيجه وجنوب البحر الأبيض المتوسط.

وبالرغم أن البحرية التركية أكبر من البحرية اليونانية -منافستها الرئيسية- لكن هناك العديد من الدول المتوسطية الأخرى التي تنافس أنقرة، فقد زادت الدوريات والتدريبات البحرية المشتركة بين اليونان وفرنسا وإيطاليا ومصر وحتى (إسرائيل) من مخاطر الصراع التقليدي.

وإذا شكلت تركيا تهديدًا خطيرًا لليونان -من خلال انتهاك التقسيم في قبرص أو محاولة غزو جزيرة كريت على سبيل المثال- فسيتعين عليها مواجهة تحالف من القوات البحرية المتمكنة مع قوة هجوم مشتركة كبيرة من شأنها أن تطغى على قدرات تركيا.

وتستلزم معظم المشاريع البحرية التركية سنوات، أو ربما حتى عقود، قبل أن تتمكن من أداء العمليات، ومن أهمها أول سفينة هجوم برمائية تركية "TCG Anadolu"، والتي من المتوقع أن تكتمل بحلول نهاية هذا العام.

تم تصميم "Anadolu" لتكون بمثابة حاملة طائرات خفيفة ومركز قيادة في البحر الأبيض المتوسط، ويمكن أن تؤدي مهمات قتالية على مسافات أبعد عبر حمل 14 طائرة مقاتلة من طراز "STOVL" أو طائرات هليكوبتر ثقيلة، وعدة مركبات هجومية برمائية، و29 دبابة قتال رئيسية، و4 مركبات آلية، مع مركبتين مبطنتين بالهواء، ومركبتي هبوط للأفراد.

وستشكل القدرة على تنفيذ غزو برمائي تهديدًا لجزر بحر إيجه الصغيرة بالقرب من الساحل التركي، كما يمكن أن تعزز عمليات تركيا في ليبيا، عبر نشر المزيد من المعدات لوحدات المشاة الآلية ونشر أكبر للقوات الجوية.

من الناحية النظرية؛ يبدو أن "TCG Anadolu" تسد على الأقل بعض الفجوة في قدرات تركيا المتوسطية، لكن السفينة وحدها لن تمنح تركيا التفوق على القوات المشتركة لفرنسا ومصر واليونان و(إسرائيل).

سيعزز الأسطول الجديد من السفن المبنية محليًا استراتيجية تركيا للدفاع عن محيطها من خلال ممارسة ضغط أعمق في البحر الأبيض المتوسط، وإنشاء مصدات بحرية جديدة وتعزيز موقعها التفاوضي ضد المنافسين الإقليميين.

ولكن لا يزال يتعين عليها الاعتماد بشكل أساسي على دبلوماسية الزوارق الحربية لتحقيق أهدافها الدفاعية خلال العقد المقبل، وسيظل تركيزها على مياهها الساحلية وإبراز نفوذها على الجهات الفاعلة الأضعف، مثل ليبيا وقبرص وبعض جزر بحر إيجه.

ويفسر ذلك سبب عدم احتواء ترسانة تركيا على مدمرة رغم تضمنها عددًا متزايدًا من الفرقاطات والطرادات التي يمكنها الإبحار بين الممرات البحرية المهمة والجزر في المياه الضحلة.

وإلى أن تتمكن تركيا من تأمين قواعد أمامية وأسطول بحري أكثر قوة، ستكافح استراتيجيتها الدفاعية بأكملها للتغلب على القيود اللوجستية وقيود التزود بالوقود والتمويل.

لا تزال تركيا تواجه تحديات في تجهيز عدد كافٍ من ناقلات الوقود بأسطول مرافقة يمكنه إعادة إمداد سفنها وطائراتها وزوارقها التي تغامر بما يتجاوز بحر إيجه، حيث لا تستطيع حاملة خفيفة واحدة القيام بالمهمة بمفردها.

علاوة على ذلك، أثارت التأخيرات في الإنتاج بسبب "كوفيد-19" والركود الاقتصادي تساؤلات حول ما إذا كان بإمكان تركيا إكمال المشاريع في الوقت المحدد، ناهيك عن بدء العمل على إنتاج حاملة هجومية أخرى مخطط لها هي "TCG Trakya".

كما أدت المصاعب الاقتصادية إلى تباطؤ النمو في ميزانية الدفاع التركية منذ ركود البلاد في 2018، ورُغم أن مدارج "TCG Anadolu" و"TCG Trakya" قد تم تصميمهما أيضًا لاستيعاب طائرات "F-35B Lightning-II"، لكن تركيا قد لا تحصل حتى على هذه الطائرات نظرًا لقرار الولايات المتحدة بإقصائها من برنامج "F-35".

يمكن أن تحصل أنقرة نظريًا على طائرات مماثلة من المملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا، لكن أوروبا ستتردد في تسليح تركيا بطائرات مقاتلة يمكن استخدامها لترهيب دول البحر الأبيض المتوسط ​​الأخرى.

في السابق، كانت تركيا تركز أولوياتها الدفاعية على بلاد الشام والقوقاز والبحر الأسود والخليج والبحر الأحمر، لكنها تركز الآن على شرق البحر الأبيض المتوسط​، حيث تأمل في خلق انطباع بأن لديها هيمنة عملياتية على منافسيها الإقليميين.

ولكن في حين أن تركيا تبني بشكل تدريجي قدراتها البحرية، فإن تركيزها سيظل على الدفاع الساحلي، بغض النظر عن مدى ترويجها لاستراتيجية "الوطن الأزرق".

المصدر | كارولين دي روز | جيوبوليتيكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

القوات البحرية التركية فيروس كورونا

بسبب تركيا واليونان.. الناتو يدرس آلية لتجنب الصدامات بالمتوسط

جنرال تركي متقاعد: الوطن الأزرق 2021 رسالة مهمة لليونان