استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

أولوية العقل والكنوز المعرفية للشريعة

الثلاثاء 15 سبتمبر 2020 10:32 ص

أولوية العقل والكنوز المعرفية للشريعة

نَهْج الامام الغزالي يقوم على إثبات الشريعة وصدق الرسالة من خلال وظيفة العقل ثم يعزل العقل نفسه من منصب القضاء، ويتلقى من الوحي.

تؤكد الشريعة أن العقل مناط التكليف وحفظع من مقاصدها العليا ورأى الغزالي وغيره أولوية العقل بشكل يغاير تمامًا صقور العلمانيين العرب.

للشرع والنص دور أساسي في صياغة أولويات "الخير المشترك" والغايات والمقاصد العامة وتحسين وتقبيح الأفعال والقيم وفقًا لقطعيات الشريعة.

فشل مشروع التنوير الغربي في إيجاد تعريفات موضوعية متفق عليها لمفاهيم أخلاقية بسيطة: الخير والشر والحسن والقبيح والحق والباطل بمعزل عن الدين.

*     *     *

في عصر ما بعد الحداثة، لا يزال بعض "صقور" العلمانية العربية يعتقد بأولوية العقل وأسبقيته وأولويته واستقلاليته المطلقة عند التعارض مع أي نص أو سلطة معرفيّة، سواء أكانت دينية أم غيرها، ويفترض أيضاً عند التعارض مع أي فكر علماني شمولي.

هذا المقال يسعى لتقييم وتلخيص موقف الفكر الإسلامي والفكر الغربي من هذه المقولة الحرجة. وينتهي بخلاصة يمكن أن تخدم العالمين العربي والغربي في عهد كورونا وعصر ما بعد الليبرالية والسلطوية. ومع أنه يمكن الإجابة على هذه المسألة بقول العجائز المُعْجز: "وأي عَقلٍ تقصد؟"، لكنني سأفصّل قليلاً في هذا المقال.

يعتمد المقال على منطق حجة الإسلام أبي حامد الغزالي ومدرسته العميقة في تمثيل الفكر الإسلامي في مجال تكاملية النص والعقل، من ناحية. وعلى نهج المفكر الغربي ديفيد هيوم ومدرسته الوضعية في تمثيل الفكر الغربي، من ناحية أخرى. وأحسب أن الكاتب بذلك لا ينتقي ولا يتحيز لموقف جزئي معين بل يعكس ويمثل اتجاهًا فكريًّا عريضًا لدى الطرفين.

تؤمن الشريعة بأن العقل مناط التكليف، وأن حفظ العقل هو من مقاصدها العليا. ويؤمن الغزالي وغيره بمبدأ أولوية العقل لكن بشكل مختلف تماماً عن صقور العلمانيين العرب.

نَهْج الامام الغزالي يقوم على إثبات الشريعة وصدق الرسالة من خلال وظيفة العقل، ثم يعزل العقل نفسه من منصب القضاء، ويتلقى من الوحي (القرضاوي، 1994). فالعقل يعزل نفسه عموماً بعد البرهنة العقلية على وجود الخالق، وإثبات الرسالة، مع استثناءات سنفصلها في المقال.

وبناء عليه، فالتحسين والتقبيح المستقلين للأفعال والأوضاع والقيم والاتجاهات والمذاهب والتقليعات هو أولاً وأساساً شأن شرعي، ولا سيما في منطقة المحكمات والقطعيات والبينات وأم الكتاب. أما في منطقة "ما لا نص فيه"، وفي "الوسائل" التي تتباين حسب الظرف والزمان والمكان، فللعقل والعلم التجريبي مساهمة بارزة.

أما حكمة الغرب، كما يحددها أحد أبرز المفكرين والفلاسفة الغربيين دافيد هيوم وغيره، فتتلخص بمقولة هيوم المشهورة: "العقل هو عبدٌ للعاطفة". ويعكس هذا القول مبدأ العقلانية الأداتية المتجذر في الفكر الغربي المعاصر: دور العقل والعلم في بناء الحضارات والأمم هو عموماً دور أداتي، أو وظيفي، أو إجرائي يتعلق أساساً بالأدوات والوسائل وليس بالغايات والقيم النهائية؛ بمعنى أنهما "أداة" فعالة لتحقيق أهداف "معطاة"، لكنهما غير مؤهلين للمفاضلة، وتحديد أي من الغايات النهائية والمتنافسة أفضل.

أي أن العقل يستطيع أن يتبع ويدعم العاطفة البشرية، ولكنه لا يستطيع أن يقودها ويرشدها ويهديها. نعم العقل مدعوماً بالحس والتجربة يستطيع أن يتنبأ بالنتائج المتوقعة للأفعال الخاصة والعامة (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ: فاطر 14)، لكن تقييم و"توزين" النتائج ليس من صلاحيات العقل المستقل. هذا هو ملخص مبدأ التشكك الأخلاقي Moral Skepticism، وفكرة النسبية الثقافية التي توصلت إليهما الحكمة الغربية المعاصرة، بعد قرون من البحث والتفكر و"التنوير" بعيدًا عن سطوة الدين.

ويُعبر عن هذه الحكمة السائدة دعائم راسخة في الفكر الغربي العلماني المعاصر أهمها:

(1) قانون هيوم (Is-Ought Problem) تأكيد لمبدأ التمييز بين الحقائق والقيم.

(2) المغالطة الطبيعية Naturalistic Fallacy في فلسفة الأخلاق الغربية المعاصرة التي ترى صعوبة، بل استحالة اشتقاق القيم المثلى والموضوعية حصراً من خلال الحقائق والأدلة التجريبية والعقلية.

وعلى عكس الفكر الوضعي العلماني، تؤمن الحضارة الإسلامية بصلاحيات واسعة للعقل؛ فالعقل له دوره في مجال العقيدة (إثبات الخالق ورسالته)، وفي التشريع فيما لا نص فيه ضمن السنن والمقاصد والقواعد الشرعية، وفي الاجتهاد وفهم وتفسير النصوص الظنية ضمن اصولها وضوابطها، وفي ابتكار التقنيات والوسائل للغايات والمقاصد الشرعية.

ومن الجانب الآخر، للشرع والنص دوره الأساسي في العبادات والغيبيات والأخلاق والسُّنن الربانية، وفي صياغة أولويات "الخير المشترك" وتحديد الغايات والمقاصد العامة، وفي التحسين والتقبيح للأفعال والقيم والتشريعات وفقاً لقطعيات الشريعة.

باختصار؛ فشل المشروع التنويري الغربي في إيجاد تعريفات موضوعية، ومتفق عليها لمفاهيم أخلاقية بسيطة مثل: الخير والشر والحسن والقبيح والحق والباطل بمعزل عن الدين.

وأخفق أيضاً في الإحاطة بسنن المجتمعات وقوانينها المطردة والعالمية والثابتة، وفي إيضاح الغايات والمعاني النهائية للمجتمع، رغم إبداعه الخلّاق، والمتزايد المخاطر في ابتكار الوسائل والأدوات والمنتجات التكنولوجية.

كان حكماء الغرب يبحثون– منذ مطلع عصر التنوير–عن تقييم عقلاني ونهائي للنظم "الديمقراطية الليبرالية مع اقتصاد السوق" مقابل النظم السلطوية والمركزية، وحدود كافة هذه النظم في عهد الأزمات والكوارث الصحية والمالية والأخلاقية والبيئية والسياسية العالمية.

لذا عليهم إطلاق البحث عن مثل هذه التقييمات الإستراتيجية والنهائية في الدين الحق وليس فقط باستخدام العقل الجماعي والعلم التجريبي غير المعصومين، وأظنهم سيجدون جواهر ودُرراً حضارية بهذا الشأن، "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا" [سورة النساء: 82].

* د. جمال الحمصي كاتب وأكاديمي باحث في الاقتصاد.

المصدر | السبيل الأردنية

  كلمات مفتاحية