النسخة الإسلامية من نهاية العالم: لماذا ينضم المقاتلون إلى «الدولة الإسلامية»؟

الأحد 20 سبتمبر 2015 02:09 ص

لأكثر من قرن، لم تكن دابق غير قرية صغيرة منسية في شمال سوريا. شأنها شأن البقاع الخضراء الممتدة بين الحدود التركية وصحراء العراق والتي من النادر أن تشترك في تكوين مصير الأًمم. هنالك لافتة عند دخول المدينة تشير إلى تعداد السكان 4000 نسمه والتي هجرها معظم سكانها منذ بداية عام 2013 بسبب البطالة أو بسبب التمرد الذي حدث مؤخراَ . كان مجرد مرور سيارة غريبة في المدينة يسبب ضجة وفرحة كبيرة للأطفال.

حكاية الدولة الإسلامية من الداخل

عندما كانت الحرب قائمة في مناطق عديدة في سوريا، كان رجال دابق مشغولون بالبناء في مواقع مختلفة كتعمير مسجد قديم أو بناء منزل بسيط أو تسييج  ضريح الخليفة الأموي «سليمان بن عبد الملك» وذلك حتى صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» بداية عام 2014. وهو ما كان يهابه شيوخ القرية منذ بداية الحرب. بدخول المقاتلين الأجانب وقاداتهم دخلت المعركة مرحلةَ ثانيةَ. حولت هذه المرحلة صراع القوى في سوريا إلى شئ أكبر وأكثر أهمية من الصراع الداخلي. بالنسبه لهم، ببساطة فقد حوله إلى حرب محتومة ومكتوب حدوثها مثل الأيام الأولى لنشوء الإسلام.

تم ذكر معركة دابق في أحاديث للنبي ، وذكر أنّ المواجهة الحاسمة بين المسلمين والصليبيين ستتم في هذه المنطقة والتي ستنذر بنهاية العالم. حسب حديث آخر، هذه النهاية ستحصل بعد فترة هدنة بين المسلمين والصليبيين والتي من خلالها سيقاتل المسلمون عدواَ غير محدداَ في شمال سوريا اليوم وهم «الفرس».

بعد مرور أكثر من 1500 سنة، نزح العديد من المقاتلين الأجانب الذين آمنوا بتفسير هذه الأحاديث. لم يكن تفسيرهم للفرس يقتصر على إيران ولكن شمل العلويون الذين يسيطرون على الحكم في سوريا وعلى المليشيات الشيعية في المنطقة العربية الذين وفدوا للدفاع عنهم.

الدولة الإسلامية ونهاية العالم

بدأ المجاهدون بالنزوح إلى سوريا منذ صيف 2012 بعد اكثر من سنة على بداية الحرب في سوريا . وفي ذلك الحين كانت المعارضة السورية مشغولة بإسقاط نظام «بشار الأسد» بأيّة وسيلة. بعد أكثر من ستة أشهر، بدأ المقاتلون الأجانب بالوفود من كل بقاع الأرض فارضين واقعهم على المعارضة السورية التي لم تنجح بتحقيق الانتصارات في أرض المعركة ولم تستطع إيجاد خطة تناسب طبيعة المجتمع بعد سقوط سوريا.

حدثني رجل من دابق عن الأحداث التي حصلت في اليوم الذي انتصر فيه المجاهدون في شمال سوريا وقال: «لقد قدموا برتلٍ من العجلات في يوم واحد في السنة الماضية ولم يتحدثوا مع أيّ شخص كان. ذهبوا مباشرة إلى الجامع واستخدموهُ كمقرِ لهم». وقال لي في أيّار 2014: «الكل يعرف الآن أين دابق على الخريطة ونحن سبب دمار المنطقه كلها».

بعد فترةٍ وجيزةٍ من حديثي مع سكان دابق، أصبح من الصعب دخول الصحفيين إلى تلك المنطقة وأصبحت تلك القرية واحدة من ثلاث بؤرٍ للحرب في المنطقة وهي الرقة في شرق سوريا وتعتبر المركز الاستراتيجي لـ«داعش» بينما اعتبروا الموصل الفتح الأكبر لهم في العراق ولكن دابق كانت الأسطورة التي دعمت ثورتهم. بالنسبة لـ«داعش»، إنّ وجود دابق في التاريخ وفي الأحاديث النبوية يدعم قصتهم بدون أيّ جدل يُذكر. ومن الواضح أنّ خطة كهذه قد نجحت. هنالك أكثر من 20 ألف مقاتل في صفوفهم من الذين جاؤا من كل بقاع الأرض ليتبعوا خلافة «الدولة الإسلامية» التي أعلنها «أبو بكر البغدادي» في حزيران/ الماضي والتي استخدم فيها ورقه دابق واعتبرها الورقة الرابحة لجذب الجهاديين. لقد أطلق «داعش» مجلتهُ الالكترونية والتي أسماها دابق تيمناً بتلك القرية الصغيرة.

في منتصف عام 2015 توشحت دابق بوشاح «داعش» الأسود حيث ملئت المدينة بالأعلام السوداء التي رفرفت فوق المساجد والمقرّات الحكومية كما صبغت جدران معظم البيوت بتلك الألوان السوداء والبيضاء لتوطد رمز «داعش» في المدينة. جابت المدينة أعداد من المقاتلين الذين قدموا أو رحلوا إلى المعركة والذين زادوا التعداد السكاني للضعف منذ احتلال «داعش» للمدينة التي رحل معظم سكانها الأصليين.

هذه هي القصة التي ساهمت في جذب العديد من الرجال الذين قرّروا القتال في حرب وحشية تنذر بنهاية العالم. هذه الحرب التي جذبتهم إلى ساحات القتال في سوريا والعراق والتي حاولت أوروبا والغرب إيقاف هذا التدفق من مواطنيهم الذين قرروا الفرار إلى داعش ومن ملايين اللاجئين الذين يودون الفرار إليهم.

صناعة الجهاديين

دعوني أروي لكم هذه القصة التي أخذتُ معظم تفاصيلها من خمسة رجالٍ جلستُ معهم مرّات عديدة في السنوات الأربع الماضية داخل العراق وسوريا. إنّ دوافع هؤلاء الرجال للقتال متشابهة ولكن في بعض الأحيان تكون مختلفة وأحيانا متناقضة. بدأ جميع هؤلاء الرجال بنفس الأحاديث النبوية حول دابق. إنهم يؤمنون بأنهم المستضعفون وأنهم مدفوعون بدافع إلهي.

آمن كل من هؤلاء الرجال الخمس بالسفر للقتال من أجل الخلافة التي تحمل المعايير القياسية لدينهم واسترجاع أمجاد الإسلام. اقتنع هؤلاء الرجال بأنهم الجيل المختار الذي سيصحح أخطاء الماضي. لقد شهدتُ هذا الاندفاع في كل الشخصيات التي قابلتها والتي من ضمنها اثنين من القادة الكبار في «داعش» والذين ألقي القبض عليهم من قبل القوات العراقية وينتظرون الآن حكم الإعدام. أحدهم كان مقاتلاً تونسي الأصل مستقر في سوريا والذي كان يؤمن بأنّ واجبه في الحياة هو طاعة قادته طاعة عمياء. وهناك شخصية أخرى من التيارات المعارضة الذي انظمّ الى صفوف الجهاديين فقط عندما أدرك أن المعركة أصبحت لصالحهم.

انضم بعض هؤلاء  للتنظيم لأنهم شعروا بأنهم ضحية للاستبداد أو لأنهم جرِّدوا من عوائلهم. إن الجهاد بالنسبة لهم هو واجب مقدس وأنّهم محاربون من أجل الثقافة الإسلامية وهي ضرورة لإقامة الخلافة، كما يسيطر عليهم الحنين للقرون الماضية التي ساد فيها الإسلام. في نهاية عام 2014 شارك العديد في القتال تحت راية أكبر جماعة إرهابية تمّ تشكيلها في السنوات الثلاثين الماضية والتي اعتبرت دابق نقطة الصفر في هذا الصراع.

كنت واقفاً على حافه الطريق خارج مبنى حكومي تحت سيطرة المقاتلين الذين اتخذوا هذا المبنى كمقرٍ لهم على بعد أميال قليلة من الحدود التركية في شباط 2013. رأيت الدبابات السورية المدمرة خلال المعركة التي جرت أياما قليلة قبل دخولي إلى المدينة. حذرني المقاتل الذي كان في المكتب بأنّ البناية المجاورة مليئة بالمقاتلين الأجانب الذين عبروا الحدود للقتال مؤخرا في سوريا. لم يكن هنالك ما يعرف بـ«داعش» ولكن المقاتلين الأجانب الذين رأيتهم يتلصصون من النوافذ هم من حملوا رايات داعش بعد أشهر قليلة من إعلان الخلافة.

في بدايه 2013، احتلّ المُقاتلون الأجانب الذين وفدوا من كل انحاء العالم تلال جبل الكرد في المنطقة الشمالية الغربية من سوريا وهي تبعد تقريباً 200 ميلاً من دابق. احتل هؤلاء الرجال بيوت العلويين الذين اضطروا الرحيل . بعض هؤلاء المقاتلين تخفوا بين عناصر الجيش الحُرّ الذي دفع بالنظام السوري باتجاه الجنوب باتجاه اللاذقية التي ما زالت تحت سيطرة النظام. عندما كنت اتفحص الدبابة المدمَرة، تقدم إليّ مقاتل وبحوزته رشاشة وبخطوة تهديدية طلب مني أوراقي الثبوتية. ثم  لم يقبل أن يرجع لي أوراقي بعد فحصها. سألته حينها لماذا ترك أهله وحياته للقتال في سوريا؟

فأجابني بلغزٍ: «هل سؤالك عن عمر وعلي؟»، عمر هو الإسم التقليديّ للسُنة وعلي هو لتحديد الشيعة. عرّفني المُقاتل بنفسهِ أن اسمه «أبو محمد» والذي لم يخفي التقسيم الطائفي في حواره. علمت بعدها أنّهُ قام و زملاءه الجهاديين بإزالة أية معالم شيعية من البيوت العلوية التي احتلوها وأبدلوها بلوحاتٍ ترمزُ للسُنة.

بعد مواجهة صعبة على حافة الطريق، قدم فريق من المقاتلين لنجدتي. قرر «أبو محمد» أن اعتقالي أو قتلي سيسبب مشاكل مع المقاتلين، فقرّر أن يستضيفني لشرب الشاي. جلسنا على كراسي بلاستيك في البيت الذي احتلته جماعته واستخدموه كمقر لهم. تحدثنا طويلا حول الغرب وكيف أنه يعتبر الغربي الذي يدفع الضرائب للدولة ويستلم راتباً منها ويشارك في الحياة الاجتماعية الغربية هو منحرف مثله مثل الشخص الذي تخلى عن دينه. بالنسبة له، لا توجد أية فرصة للنقاش أو إيجاد حل وسط لتقييم الإنسان. إنّ هذا الإنسان إمّا أنّهُ يستحق الحياة بعد الموت وإمّا الّلعن الأبدي. 

وأضاف: «هذه الحرب هي ضد عدو فتاك ولكن الإسلام سينتصر. أنت هنا في مهمة إنسانية ولهذا سأدعك ترحل ولكن لا تبقى هنا طويلا». رحلت بعدها ولاحظت خلال الرحلات الخمس التي قضيتها بعدها إلى سوريا على مدار 18 شهرا أن ا عدد الجهاديين في إدلب وحلب في تزايد مستمر. سيطر المجاهدون على أراض ومساحات واسعة في تلك المحافظتين وخاصة في الأرياف وفرضوا سيطرتهم وسياستهم على جبهات المقاتلين الآخرين الذين تمرنوا تحت إمرة الجيش السوري سابقا وأرادوا الآن فرض سلطة جديدة على ما تبقى من سوريا بعد الدمار. اعتبر الجهاديون «نظام الأسد »جزءاً من المشكلة ولكن هدفهم أكبر وهو التأكيد على خضوع المقاتلين لهم وحدهم. كلما أُتيحت الفرصة لهم قاموا بتحويل المعركة في سوريا من حرب ضد نظام باطش إلى فوضى عامة.

في نفس الوقت الذي أُطلق فيه سراح جهادي شاب اسمه «أبو عيسى» من سجن حلب المركزي في نهاية عام 2011 بطريقة حصان طروادة نظمت عبر «داعش»، أُطلق سراح سوري له علاقة سابقة بتنظيم القاعدة في العراق اسمه «أبو عيسى». تم إطلاق سراح «أبو عيسى» مع عشرات الرجال كبادرة طيبة من «نظام الأسد» إلى الجماعات الإسلامية والذين وصفها النظام كنوع من التسامح مع الرجال الذين قاتلوهم.

قضى معظم السجناء المتهمين بعلاقتهم بالقاعدة حكمهم في سجون سوريا لسنوات عديدة قبل الثورة ضد «نظام الأسد». قال لي «أبو عيسى» ، وهو أحد أعضاء تنظيم «داعش» وحارب ضد الجيش الأمريكي في 2004 و 2005 قبل هروبه من بغداد في 2006: « كنا في أسوأ السجون تحت الأرض في سوريا. إذا كنت متهماً بنفس قضيتي فسينتهي بك الأمر في سجن الأمن السياسي في دمشق أو في مخابرات القوة الجوية في حلب. لا يمكنك التكلم مع الحرس. لم يكن هنالك أي شئ في السجن عدا القسوة والخوف».

تم نقل «أبو عيسى» وجماعته من الحبس الانفرادي في الريف إلى السجن الرئيسي في حلب قبل إطلاق سراحهم بعدة أشهر حيث استمتعوا بحياة أكثر رفاهية. وقال «أبو عيسى»: « كان السجن أشبه بالفندق ولم نستطع أن نصدق النعيم الذي كنا فيه. أعطونا السجائر والبطانيات وكل شئ طلبناه. كان من الممكن أن نطالب بإعطاننا نساءاً أيضا». لكن حدث أمرٌ مريب أيضاً وهو إحضار سجناء من طلاب الجامعات الذين تم إلقاء القبض عليهم في حلب بسبب المظاهرات ضد «نظام الأسد». 

شرح «أبو عيسى»: «كان معظمهم أطفال مع لافتات ضد النظام وتم إرسالهم مع سجناء جهاديين. أحدهم كان شيوعيا كثير الكلام عن أفكاره. وكان هناك رجل من القاعدة و كان معروفاً بأخلاقه الحسنة ولكنه كان سريع الغضب مع هذا الشاب وتوعد بقتله إذا رآه مرة ثانية». فكر «أبو عيسى» وجماعته أن هناك سبب آخر لنقلهم للسجن الجديد وهو لتوطين الفكر الأيدولوجي في عقول هؤلاء الشباب الذين كانوا أساس الثورة في أكبر مدن سوريا. 

في نفس اليوم الذي تم إطلاق سراح «أبو عيسى» وجماعته من السجن، قامت الحكومة اللبنانية التي تساند دمشق بإطلاق سراح أكثر من 70 جهادياً المحكوم عليهم بتهم إرهاب والذين من المفروض أن يقضوا وقتاً طويلاً في السجن. لم يفهم السياسيون الأجانب في بيروت الذين كانوا يترقبون مصير هؤلاء المجرمين لأكثر من أربع سنوات سبب هذه الخطوة من الحكومة اللبنانية وخصوصاً أن بعضهم متهمين في أحداث مخيم  نهر البارد في في يوليو/تموز عام 2007 والتي أدّت إلى قتل 190 جندياً لبنانياً ودمرت معظم المخيم. لقد تكررت الإدعاءات في السنوات الخمس الماضية بأن الحكومة السورية ساهمت في انتشار التطرف لتساعد في انشقاق المعارضة ولتؤكد روياتها بأن الحرب يجب أن تكون ضد الإرهاب. هذا هو أساس شكوى المعارضة السورية في الشمال والذين يقولون بأنهم خسروا أكثر من 1500 من مقاتليهم عندما أطاحوا بـ«داعش» من إدلب وحلب في بداية 2014. لم تتدخل الحكومة السورية عندما حاربت المعارضة «داعش» وحققت المعارضة النصر لأول مرة في المعركة حول المدينة.

قال «أبو عيسى» وهو يعيش الآن في المنفى في تركيا: «لم يكن هنالك أي سبب لخلط السجناء السلفيين مع طلاب الجامعات ولكن الحكومة السورية أرادت أن تغسل أدمغة الطلاب. لو بقي الطلاب مع لافتاتهم في الشوارع السورية, لكان سقوط النظام حتمياً وخلال أشهر قليلة وهم يعلمون بهذا الأمر».

و أضاف أبو عيسى: «لم يتحدث الجهاديون عن أسباب إطلاق سراحهم. لقد فرحوا بالنجاة من النظام الذي ابتلع العديد من الإرهابيين في السابق. لا أحد يود الاعتراف بهذا، ولكن بمرور الوقت أصبحت الفكرة واضحة. تم إطلاق سراح إرهابيين خطرين في ذلك اليوم والذين قاموا بعمل ما كان متوقع منهم وهو الانخراط الفوري في صفوف المقاتلين ضد النظام. في ذلك اليوم توقفت معركة حقوق الإنسان وتحولت إلى معركة أُخرى».

في بداية عام 2013 قام الجهاديون بإنشاء مراكز تدريبية داخل الحدود السورية وكان العديد منهم على بعد عدة أميال من الحدود التركية. كان يدير المراكز مقاتل سعودي اسمه «غزوان».  تعطي «داعش» 30 يوما من التدريب الأولي والدروس القرآنية المكثفة للمقاتل ثم يتم إرساله إلى الجبهة. كانت الأعلام التركية الكبيرة المرفرفة على سطح المركز الحدودي قريبة من المراكز التدريبية.

في ذلك الحين، قابلت الجهادي العراقي المعروف بـ«أبو اسماعيل» والذي لم يكن خجلاً من التحدث عن ماضيه وقال وعينيه تحدق بثبات: «انضممت مع أبي في تنظيم القاعدة بين عام 2055 و 2011 وكنت حينها أبلغ  16 سنة. لقد كنت عنصراً فعالاً في التنظيم في ذلك الوقت عدا الشهر ونصف الذين قضيتهم بالسجن». أصبح «أبو إسماعيل» الآن 23 سنة ووصل إلى منطقة الباب في مدينة حلب خلال النصف الثاني من 2012 ورحب به لواء التوحيد كمقاتل مهاجر. قال الشيخ «عمر عثمان» آنذاك وهو قائد لواء التوحيد :«لا نثق بالقاعدة. ولكن يجب علينا كمسلمين أن نقبل أي مقاتل مسلم وخصوصا إذاقدم لمساعدتنا».

قال «أبو إسماعيل» بأنه كان واحداً من العديد من العراقيين الذين سافروا إلى سوريا. بالنسبة له ولآخرين أمثاله، كانت الحرب الأهلية امتداداً لنفس النهج الخاطئ الذي مزق العراق بين عام 2005 و 2007 وهو نتيجة صراع القوى بين السنة المهزومين والشيعة الحاصلين على السلطة. على الرغم من أن خطوط القتال مرسومة بمنافسة سياسية حديثة، ولكن «أبو اسماعيل» قال لي بأنه يؤمن أن الصراع يرجع إلى النزاع التاريخي القديم بين الطائفتين والذي حصل في بلاد ما بين النهرين قبل آلاف السنين. « كنا تقريباً خمسين مقاتلاً عراقياً في شمال سوريا أو أكثر بقليل. لم يكن من الصعب علينا الوصول الى هنا ولم يكن من الصعب علينا إيجاد المجاهدين. نستطيع أن نقاتل أينما نريد ومتى ما نريد وستنتصر بمشيئة الله».

قابلت شخصاً آخر في بداية عام 2012 والمعروف بـ«أبو أحمد» والذي قدم من موقد الحرب المتأججة في العراق وانخرط في صفوف المقاتلين السنة الذين عانوا من فقدان السلطة بعد الاحتلال الأمريكي. انضم إلى جماعات المقاتلين منذ الأيام الأُولى ووصف لي كيف ضبطوا النظام بين المقاتلين وكيف توحدوا مستخدمين سجن بوكا تحت الاحتلال الأمريكي وكيف كان هذا السجن كحاضنة لبذرة الرعب التي نشأت ونمت بعد عدة سنوات».

انضم أبو إسماعيل ورفاقه العراقيين في الحرب الحاسمة لـ«داعش» في سوريا في النصف الثاني من عام 2012 والتي أخبرني عنها «أبو أحمد» وقال: «هذه هي الأشهر الحرجة التي جمعت المتقدمين من التنظيم الذين حاولوا وفشلوا لتحقيق النجاحات التي سبقت عام 2010. هناك من فقد الأمل ، وهناك من انسحب. ولكننا الآن تجمعنا مرةً أُخرى، والأشخاص الذين تفرقوا انضموا إلى قواعدنا مرة ثانية».

وصل عدد المقاتلين العراقيين في سوريا إلى خمية آلاف مقاتل في شهر إبريل/ نيسان عام 2013 وكان العدد في تزايد مستمر. عبر المحاربون القدامى ضد الاحتلال الأمريكي الحدود السورية كما عبرت الحرب الطائفية ضد الشيعة الحدود وبدأ العراقيون بأخذ مراكز القيادة في التنظيم الجديد الذي صنف ضمن فئة التنظيمات الأكثر تنسيقا في الحركات الجهادية في سوريا والتي يطلق عليها اسم جبهة النصرة . في تلك السنة، كان اللباس الرسمي للمجاهدين الجدد بارزاً وواضحاً سواءاً في المناطق الحربية على الحدود التركية أو عند ركوبهم الطائرة في الرحلات من إسطنبول إلى غازي عنتاب أو أنطاكيا.. هاتان المدينتان اللتان تعتبران المعبران الرئيسيان لسوريا.

كنت أرى خمسة مجاهدين أو أكثر على متن كل طائرة أركبها متوجهاً إلى إحدى المدينتين التركيتين بين مايو/ أيار 2012 و2014 ولم أشك للحظة بأنهم في طريقهم إلى الحرب. يرفض معظم هؤلاء الرجال الجلوس بجانب النساء وبعضهم يرتلون القرآن و بعض نغمات هواتفهم من القرآن. لم يخفي أياً منهم وجهة سفره ولم يواجه أيّاً منهم مشاكل مع الشرطة سواءً قبل أو بعد صعودهم إلى الطائرة وهذا ما سمعته من العديد من سواقي سيارات الأُجرة الذين يستقبلون هؤلاء المقاتلين من المطار لنقلهم إلى الحدود مباشرةً. قال لي أحد سواق سيارات الأُجرة في سبتمبر/ أيلول 2013 «لقد أخذت أربعة رجال في أُسبوع واحد واثنين في الأُسبوع الفائت. كان لديهم تفاصيل دقيقة عن المواقع التي يودون الذهاب إليها وكنت أقف على حافة الطريق وهم ينزلون للعبور مشياً عبر الغابة حاملين أمتعتهم الشخصية معهم».

حلف البعثيين والجهاديين

قدم رجل كبير في السن بلحية مليئة بالشيب يدعى «سامر الخليفاوي» مع زوجته إلى قرية تل رفعت في شمال سوريا واتخذها مقراً له. يعتبر هذا الشخص سبباً رئيسياً لتوسع «داعش». عندما جاء إلى سوريا، كان حاملاً بيده المخطط الذي رسم فيه أُسلوب إدارة الدولة والتي تعلّم فنونها في صفوف القوة الجوية أثناء حكم «صدام حسين». خسر «خليفاوي» كما خسر أي عضو من أعضاء القوة الجوية مراتبهم ورواتبهم التقاعدية وأية فرصة للعمل مع القوات العراقية الجديدة التي تشكلت بعد «بول بريمر» الذي حلّ القوات العراقية السابقة والتي كان معظم أعضائها من البعثيين. 

 

أعاد «الخليفاوي» ومعه عدد من أعضاء البعث تنظيم صفوفهم بعد فترة قصيرة من خسارتهم لمناصبهم وشارك البعض منهم في العمليات الجهادية ضد الأمريكان. تضمنت صفوفهم آنذاك بعض من الخطوط الجهادية. ولكن «الخليفاوي» قرر أن ينضم مع زملائه البعثيين في سوريا والذين أعطوه ملجأً آمنا وغذوه بالسلاح. تضامنت القوات الإسلامية الجهادية مثل القاعدة وغيرها من الحركات السلفية مع البعثيين وشكلت حلفاً لم يكن من الممكن تشكيله في زمن «صدام حسين» الذي اعتبر الحركات الجهادية أكبر خطراً ممكن أن يواجهه(الصورة: مقاتل من داعش يوزع مشروبات غازية وكتيبات على السكان)

شارك البعثيون بدهائهم التخطيطي بينما أعطى الجهاديون القوة لهذا التحالف وأصبح واحدهم مكملاً للآخر، وخاصةً في مراحل تطور الحركات الجهادية منذ زمن القاعدة وصولاً إلى «الدولة الإسلامية» الآن. أسس الخليفاوي جذور «داعش» عندما انتقل إلى تل رفعت وكانت مهمته الرئيسية تشكيل وتوطيد نظام «داعش». انتقل «الخليفاوي» مع أكثر من خمسين عراقياً من جماعته وبعضهم مع أولادهم إلى سوريا وأُعطيت لهم مهمة تمهيد القبائل والمجتمع لهم وتحوليها إلى مستوطنات لهم. كشف «دير شبيجل»  وثائق مهمة بينت كيف أسس «الخليفاوي» فيها قواعده وبدقة متناهية من خلال تخريب المجتمعات في الشمال، وكيف أنه شكل مع مجموعات من الشباب العراقيين منظمات خيرية والتي جمع من خلالها معلومات دقيقة عن القبائل المعروفة في المنطقة التي من الممكن التزوج من أولادهم كما ركزوا على القوات الموجودة هناك التي ممكن أن  تشكل خطراً عليهم والتي يجب التخلص منها عندما يحين الوقت. لم تتوقع المجتمعات السورية التي احتضنتهم كمقاتلين مغتربين النهاية الحاصلة الآن.

تحركات «البغدادي»

سقطت كل القطع في مكانها المناسب ليبدأ «البغدادي» في تحركاته في غضون أشهر قليلة. أعلن «البغدادي» في إبريل/ نيسان أن جبهة النصرة المنحازة إلى القاعدة قد ضمت إليهم. وفي نفس ظهيرة ذلك اليوم، ذهب مقاتلو «داعش»  ومن ضمنهم «أبو إسماعيل» إلى مركز حلب وطردوا أعضاء جبهة النصرة من قاعدتهم في مستشفى العيون وصبغوا جدرانها بالأسود واحتلوها.

كانت الغزوة على جبهة النصرة واحدة من أهم الغزوتين اللتين أثبتتتا للمعارضة السورية وللمنطقة العربية أن «داعش» هي منظمة صلبة تطابق أقوالها بالأفعال .وتكرر بعدها الوضع بشراسةٍ متناهية في شمال سوريا. قال لي أحد أعضاء «داعش»: «كان ذلك الوقت مهماً جداً بالنسبة لنا. إن الأُمور لم تجر بشكل جيد أبداً في العراق».

نهايات وخواتيم

يعيش «أبو صالح» الآن في الفلوجة وترعرع مع الإخوان المسلمين في بغداد وشارك العديد من أقرانه في التمرد المناهض للولايات المتحدة والذي نشأ بعد 2033. تحول «أبو صالح» من مقاتل شوارع لا يهاب أي شئ إلى شخص يؤمن بعقيدة «داعش» وبما يقاتلون من أجله. لكنه بقي يحب الرفاهية الغربية والتي تتمثل بالسيارات الحديثة والأسلحة المتطورة والتقنيات المتقدمة، لكن الصراع الممتد عبر الحدود الأُخرى كان يجذبه بشدة.

قُتل « أبو محمد اللبناني» بعد فترة قليلة من طرد «داعش» لجبهة النصرة في إبريل/نيسان 2013 أثناء عملية كان يقوم بها ضد القاعدة الجوية التابعة للنظام السوري قرب الحدود التركية. أما «أبو أحمد» والذي بقيت على اتصال معه أصبح عضواً في «داعش» منذ منتصف عام 2013 فقد صار ساخط على التنظيم حيث يرةى أنه كثيراً عن مبادئه الأُولى والتي كان هدفها الأول محاربة الاحتلال الأمريكي والدفاع عن الطبقة السنية التي انسحقت بعد رحيل «صدام حسين». لكن بالرغم من هذا السخط، ضل فخوراً أن «داعش تعيد أمجاد الإسلام والحضارة الإسلامية وخاصة في العالم السني وذلك من خلال محاربة إيران ونظام الأسد».

عين «أبو إسماعيل» كأمير في شرق سوريا وربما هو يلعب الآن دوراً غير مقصود في سيطرة «داعش» في الشمال. بقي الجهادي «أبو صالح» في الفلوجة وفي خطوطها الأمامية ملتزماً بعقيدته ووفياً لها ، بينما يعيش «أبو عيسى» في تركيا ويحاول أن يبني مستقبله هناك.

 

  كلمات مفتاحية

سوريا العراق الحركة الجهادية الدولة الإسلامية

هل تمثل «الدولة الإسلامية» تهديدا سيبرانيا «إلكترونيا» للأمن العالمي؟

تجديد النسخة الجهادية: «القاعدة» يعيد طرح نفسه بهوية جديدة

«الدولة الإسلامية» ليست لغزا: كيف نفهم تحركات التنظيم الاستراتيجية؟

وثائق «دير شبيجل»: القصة الكاملة لـتأسيس «الدولة الإسلامية» على يد ضابط مخابرات عراقي

«ذا ديلي بيست»: قصة ظهور «الدولة الإسلامية» من قلب أحد السجون الأمريكية في العراق

محددات السياسة الإسلامية للدول الكبرى

التدمير فالطوفان ثم التفكير في حلول

لماذا يسعى تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى توسيع عملياته في الغرب؟

الثقافة الدينية والمجال العام