لبنان.. هذا ما تخبرنا به عقود من نظام المحاصصة الفاسد

الاثنين 14 ديسمبر 2020 02:01 ص

جرى إنشاء المفوضية الفرنسية العليا للمشرق العربي في عام 1920 أي قبل 3 سنوات من تسمية عصبة الأمم فرنسا كقوة انتداب بعد معاهدة لوزان.

ومن المفارقات أن فرنسا، الدولة الأكثر علمانية في أوروبا، اختارت إنشاء النظام الطائفي الوحيد في العالم.

لكن لم يكن لدى باريس الكثير من الخيارات فالاقتراح الوحيد الذي تلقوه جاء من الكنيسة المارونية لأن المسلمين، ومعظمهم من السنة، رفضوا قبول الكيان اللبناني وفضّلوا الاندماج مع سوريا مما جعل الدولة التي أعقبت ذلك دولة بدون أسس وهي تغرق الآن في الفتنة والفوضى.

الفساد والمساءلة

قامت مجموعة من نخبة رجال الأعمال المسيحيين في عام 1926، بصياغة دستور لبنان الذي أحال معظم امتيازات الدولة لصالح الطوائف المختلفة في البلاد.

لقد جعل الجماعات الدينية غير خاضعة للمساءلة، ومنح السياسيين حصانة كاملة من الملاحقة القضائية.

لقد تبنى مؤسسو لبنان الرأسمالية الريعية، واخترعوا القومية الفينيقية، وأطلقوا على النظام الذي صنعوه اسم "المعجزة اللبنانية".

وبدلاً من الرغبة في إنشاء أمة لبنانية، أراد الآباء المؤسسون الحفاظ على هويات طوائف البلاد.

وقد منح الدستور الطوائف حق التعليم الخاص وخلق عمدًا نظام تعليم عام ضعيف أدى إلى ابتعاد معظم الطلاب.

ولم يتعلم الطلاب أبدًا معنى الدولة، كما هي.

باختصار، قوض الانتماء الطائفي الهوية الوطنية بشكل عام.

كان أول رئيس للبنان بعد الاستقلال هو "بشارة الخوري" الذي اشتهر بفساده وسوء إدارته المالية كما قام بتزوير الانتخابات البرلمانية لعام 1947 حتى يتمكن من الحصول على ولاية ثانية.

وأدت المظاهرات الحاشدة إلى استقالته في عام 1952.

ومنذ ذلك الحين، اكتسبت النخبة السياسية المهارات اللازمة لمقاومة المطالب العامة بالمساءلة وتجاهل الطلبات الأجنبية للإصلاح.

وعلى طريق "الخوري"، سار "كميل شمعون"، الذي انحاز لأحد أطراف الحرب العربية الباردة.

وبالإضافة إلى فساده، فقد عزل شريحة واسعة من المواطنين اللبنانيين حيث دعا إلى حرب أهلية مصغرة، لكنه استمر في ولايته الكاملة.

وكانت رئاسته دليلا على استحالة الإصلاح في السياسة اللبنانية.

وفي غياب المساءلة، ترعرع الفساد.

على سبيل المثال، عندما تولى رئيس الوزراء السابق "رفيق الحريري" منصبه عام 1992 كانت ثروته تقل عن 4 مليارات دولار، وبحلول الوقت الذي اغتيل فيه عام 2005، كانت ثروته تبلغ 16 مليار دولار.

وحصل خليفته "فؤاد السنيورة" على 5 ملايين دولار كنائب محافظ البنك المركزي، لكنه جمع أكثر من مليار دولار عندما ترك منصبه في عام 2009. (حوالي 11 مليار دولار من الأصول الحكومية لم يحسبها المدققون).

فرضت الولايات المتحدة، مؤخرًا، عقوبات على "جبران باسيل"، زعيم "التيار الوطني الحر" ذي الأغلبية المسيحية، بتهمة الفساد. منذ عام 2009.

كان "باسيل" مسؤولاً عن وزارة الطاقة بشكل مباشر أوغير مباشر، ولم يتمكن من تبرئة نفسه من الاتهامات بتحصيل ملايين الدولارات كما أن حجم ثروته غير معروف.

وليست هذه جرائم بلا ضحايا، فقد أنفق لبنان 42 مليار دولار على الكهرباء منذ عام 1992، وهو ما يمثل 50% من الدين العام، دون حل مشكلة الإمداد.

ولا يزال اللبنانيون يعانون من انقطاع التيار الكهربائي يوميا لأكثر من 12 ساعة، والتي تقفز إلى 18 ساعة في بعض الأوقات.

وتدفع معظم الأسر اللبنانية فاتورتين شهريتين للكهرباء، واحدة للحكومة والأخرى لمقدمي الخدمات الخاصة.

ويعد إنتاج الكهرباء الخاصة من الأعمال المزدهرة التي تعمل عبر مولدات الديزل المدعومة بشكل كبير وتدر أرباحًا بقيمة 1.5 مليار دولار يتقاسمها الملاك والبلديات والمسؤولون الحكوميون.

ويتلقى المشتركون جهدًا منخفضًا بتكاليف باهظة، ويتنفس الجميع مواد مسرطنة.

ويبلغ الدين العام حوالي 95 مليار دولار، وهو ما يتجاوز 160% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعل لبنان البلد الأكثر مديونية في المنطقة من حيث الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.

وقد وصل عجز الموازنة بين عامي 2004 و2017 إلى نحو 45 مليار دولار، مقابل 3.4 مليارات دولار عام 1993.

وفي مارس/آذار 2020، تخلف لبنان عن سداد ديونه عندما فشل في دفع أقساط 1.2 مليار دولار على سنداته الأوروبية.

وقد ألغت شركة "Alvarez & Marsal"، وهي شركة استشارات إدارية، اتفاقًا لإجراء تدقيق جنائي على البنك المركزي لأن محافظ البنك، تذرع بالسرية المصرفية، ومنعهم من الوصول إلى حسابات محددة.

وانهارت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن خطة إنقاذ بعد 16 جولة من المحادثات.

وخلص ممثلو صندوق النقد الدولي إلى أن مفاوضيهم اللبنانيين لم يبدوا اهتمامًا حقيقيًا بالإصلاح.

قال أحد المندوبين إنه عندما تحدث إلى أعضاء فريق التفاوض اللبناني، شعر أنه يتفاوض مع رجال العصابات وليس مع رجال الدولة المعنيين ببلدهم.

وقد ذهبت دولارات المودعين للحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار ولتمويل العجز المالي للحكومة من خلال الشراء المباشر لسندات اليورو.

وقد حققت مناورات الهندسة المالية للبنك المركزي فوائد بمليارات الدولارات للبنوك المحلية على حساب المودعين فيما يرقى إلى خطة "بونزي" التي ترعاها الدولة. (إجمالاً، فقد تم إهدار 75% من 127 مليار دولار للمودعين).

هناك الكثير من الحالات الأخرى للتهرب من المسؤولية.

فقد نتج الانفجار الهائل الذي حدث في مرفأ بيروت في أغسطس/آب عن شحنة من 2750 طنًا من نترات الأمونيوم الخطرة التي تم تخزينها بشكل غير آمن في مخزن منذ عام 2012.

وقد توفي ضابط جمارك كبير مؤخرًا في ظروف غامضة بعد إفشاء معلومات حساسة للمحققين حول الأشخاص المسؤولين عن تخزين هذه المواد بالرغم من التحذيرات من انفجار وشيك.

كما واجه ضابط جمارك كبير آخر نفس المصير في عام 2017 لإبلاغه عن الأمر.

وفي كلتا الحالتين، ألقت السلطات باللوم في القتل على لصوص، ولم يتم حل لغز الاغتيالات والانفجارات على الإطلاق، ولا يبدو أن الانفجار في الميناء استثناء من هذه القاعدة.

وقد قرر رئيس الوزراء ووزير المالية إقالة رئيس الجمارك، لكن الرئيس رفض التوقيع على المرسوم.

وعلل الرئيس ذلك بأن توجيه اتهامات ومعاقبة رئيس الجمارك الماروني وإطلاق سراح الجناة من الطوائف الأخرى من شأنه أن يهدد الانسجام الطائفي في لبنان.

ولضمان التوازن الطائفي، ليس فقط في تخصيص موارد الدولة ولكن أيضًا في معاقبة المخالفين، وجه قاضي التحقيق الاتهام إلى رئيس الوزراء المؤقت، وهو أكاديمي سني ليس لديه قاعدة دعم سياسية، وإلى 3 وزراء سابقين للأشغال العامة، و 2 من الشيعة و1 ماروني.

ويظهر الفساد والمخالفات في كل جانب من جوانب الحياة العامة في لبنان. ففي كل مرة تهطل فيها الأمطار بغزارة في المدن اللبنانية الساحلية، تغمر أنظمة الصرف الصحي الشوارع بسبب انسداد مصارف المياه العادمة في ظل عجز وزارة الأشغال العامة.

وأغلقت جميع الإشارات الضوئية وكاميرات المراقبة في أبريل/نيسان الماضي بعد خلاف بين مصلحة المركبات بوزارة الداخلية وبلدية بيروت حول استحقاق عائدات رسوم عداد مواقف السيارات، مما أوقف عمل مركز إدارة المرور.

وأدى التوقف إلى زيادة بنسبة 120% في وفيات حوادث السيارات.

وبعد 8 أشهر، من الحدث لا زالت إشارات المرور مطفأة.

وجه النائب العام مؤخرا لائحة اتهام ضد 8 ضباط متقاعدين، بينهم قائد سابق للجيش، باختلاس أموال عامة بموجب قانون الإثراء غير المشروع، الذي تم إهماله منذ وضعه عام 1999.

ويعاني الجيش اللبناني من نفس المشاكل الهيكلية والسلوكية التي تعيق السياسة اللبنانية.

ومن المشكوك فيه ما إذا كان المدعي العام أو نظام المحاكم العسكرية سيقدم فعليًا الأفراد العسكريين العاملين إلى العدالة. 

نظام سياسي مشوه

خلف "فؤاد شهاب" قائد سابق للجيش "شمعون" في منصب الرئاسة عام 1958 حيث قام بإصلاح إداري وقضائي وسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية، وأدخل الضمان الاجتماعي، ونظم مالية الدولة، وأسس البنك المركزي.

والتزم "شهاب" بالقانون والدستور وضمن بقاء الجيش خاضعًا للمؤسسة السياسية. ولكنه فقد الأمل في السياسيين اللبنانيين من كل الأطياف، الذين عرقلوا مشروعه لإقامة دولة مؤسسات يحكمها القانون والنظام.

وبعد عامين من توليه المنصب، خلص "شهاب" إلى أن اللبنانيين ليسوا مستعدين للتخلي عن قادتهم الفاسدين.

وبدافع من اليأس، حاول "شهاب" الاستقالة من الرئاسة، لكن المخاوف العامة والخاصة بشأن فراغ السلطة الناتج عن ذلك أقنعته بضرورة إنهاء فترة ولايته في المنصب.

بعد انفجار أغسطس/آب، توجه العديد من اللبنانيين إلى فرنسا طلبا للمساعدة.

فشل الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" في إقناع السياسيين اللبنانيين بالارتقاء إلى مستوى الحدث والشروع في إصلاحات سياسية ومالية هادفة.

ولم يستطع "ماكرون" إخفاء سخطه وازدراءه للطبقة السياسية، وقال إنه يشعر بالخجل من خيانتهم لوعدهم بتشكيل حكومة جديدة واتخاذ خطوات ملموسة لإحياء اقتصاد البلاد المنهار.

وفي 2 ديسمبر/كانون الأول، عقدت فرنسا مع الأمم المتحدة مؤتمرا افتراضيا للمانحين لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني بشكل مستقل عن الحكومة.

وتعليقًا على وقائع المؤتمر، قال رئيس الكنيسة المارونية: "المسؤولون في لبنان لا يخجلون!".

وبالرغم من جاذبيته، فإن المنصب السياسي في لبنان محفوف بالأخطار بشكل كبير.

منذ الاستقلال، كلفت الحياة السياسية رئيسين و3 رؤساء وزراء و 15 وزيراً ونائباً برلمانياً حياتهم.

وغالبًا ما يتوقف النظام السياسي عند طريق مسدود بسبب عدم القدرة على اختيار الرئيس أو رئيس الوزراء.

ويعتبر اختيار رئيس للوزراء مهمة شاقة، وغالبًا ما يستغرق ما يصل إلى عام بعد أن يكلفه البرلمان بتشكيل الحكومة.

كما أن الثقة الاجتماعية متدنية، وثقافة الفساد متفشية وظاهرة بلا خجل.

وإجمالا، ينظر معظم الناس إلى الدولة على أنها كيان غير كفء ومعاد وغريب ويفضلون تقليل تفاعلهم معها.

المصدر | هلال خاشان - جيوبوليبتكال فيوتشرز – ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الفساد في لبنان الطائفية في لبنان مئوية لبنان الاقتصاد اللبناني النظام السياسي اللبناني مرفأ بيروت

حرب كلامية وتبادل اتهامات بالفساد بين الحريري ونائب لبناني

قادمة من الصين.. لبنان يعلن ضبط باخرة أرز فاسد في مرفأ طرابلس