استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

"التنوير" من فوهة بندقية فرنسية

الاثنين 14 ديسمبر 2020 08:44 ص

"التنوير" من فوهة بندقية فرنسية

لن تكون تنويرياً ما لم تقبل أن تكون تابعًا سياسيًا مُستلَبًا ثقافيًا ومُنسلخًا هوياتيًا.

"كل تنويري لا يُسهم في فضح الاستبداد فهو تزويري.. أي تنوير تحت ظلال القمع؟!"

يتعامل "التنويري" ماكرون مع التنوير بالقطعة وحسب الهوى وحسب ما تقتضيه المصلحة!

مأساة (التنويريين) العرب أنهم يدافعون عن "فرنسا متخيّلة" في أذهانهم: فرنسا الثورة التي حطّمت أسوار سجن الباستيل.

صعب أن تكون تنويرياً في زمننا هذا دون أن تطعن في كل ما هو عربي وإسلامي كما يفعل بعض (مدّعي) التنوير العرب.

ولن تكون تنويرياً إلا بالصمَتَّ عن بربرية أصولية سلطوية تقطّع معارضيها بمناشير أو تلقي به في غياهب السجون بتهم سياسية ملفقة.

ولن تكون تنويرياً إلا إذا دافعتَ عن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، واعتبرته "ذكاء وفطنة وحُسْن تصرّف" من وليّ الأمر.

*     *     *

لا يزال نفر من المثقفين والكتّاب العرب أوفياء لما تسمّى "قيم الجمهورية الفرنسية"، ذلك الفيل الأبيض الذي نسمع عنه من دون أن نراه، ويدافع عن فرنسا باعتبارها "منارة التنوير"، ومنبع قيم "الحرية والإخاء والمساواة" على غرار الشعار الأثير للثورة الفرنسية.

يقولون ذلك رغم أن أكبر شخصية سياسية في فرنسا، ممثلة في رئيسها إيمانويل ماكرون، قد أهال التراب على تلك القيم وقبرها، سواء بسلوكه المتعجرف وتصريحاته الوقحة تجاه الإسلام والمسلمين، أو باحتضانه وحمايته ورعايته السلطويين العرب، وفي مقدمتهم الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي، ومجرم الحرب اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر.

قبل أيام، تندّر الصديق الباحث الأصولي، والمحرّر في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، رائد السمهوري، على صفحته في "فيسبوك" على مصطلح "التنويريين" قائلاً، ومعه كل الحق: "كل تنويري لا يُسهم في فضح الاستبداد فهو تزويري.. أي تنوير تحت ظلال القمع؟"

فاستحضرت قولاً مأثوراً ذكرْتُه بتصرّف مفاده "كلما سمعت كلمة تنوير، تحسّست مسدسي!". وكنت قد كتبت سابقا مقالاً عن "التحرير والتنوير"، نافحت فيه عن ضرورة التحرّر السياسي من الاستبداد شرطا أساسيا واستباقيا لأي تنوير عقلي أو فكري مبتغى.

أما التنوير على طريقة بعض المثقفين العرب الذين ينعتون أنفسهم بـ"التنويريين"، فيعني ببساطة ليس فقط الانسلاخ من كل ما يمتّ للهوية العربية وتراثها وحضارتها الإسلامية بصِلة، والتماهي مع كل ما هو "غربي" شرطا استباقيا لوقوع التنوير، وإنما أيضا الانسلاخ من كل ما هو قيمي وأخلاقي وإنساني.

فمن الصعب أن تكون تنويرياً في زمننا هذا من دون أن تطعن في كل ما هو عربي وإسلامي، كما يفعل بعض دعاة (أو بالأحرى مدّعي) التنوير العربي. ولن تكون تنويرياً إلا إذا صمَتَّ عن بربرية الأصولية السلطوية التي تقطّع معارضيها بالمناشير، أو تلقي به في غياهب السجون بتهم سياسية ملفقة.

ولن تكون تنويرياً إلا إذا دافعتَ عن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، واعتبرته "ذكاء وفطنة وحُسْن تصرّف" من وليّ الأمر. ولن تكون تنويرياً ما لم تقبل أن تكون تابعاً سياسياً، مُستلَبا ثقافياً، ومُنسلخا هوياتياً.

والآن أُضيف إلى روشيتة التنوير بُعد جديد، وهو الوقوف مع فرنسا، كانت على حق أم على باطل، والدفاع عن أصوليتها الإقصائية، ونزق رئيسها الذي يخون علناً قيم "الجمهورية"، وأهمها قيمة الحرية.

قبل أيام، فرش ماكرون، راعي التنوير والتنويريين العرب الجدد، السجادة الحمراء في قصر الإليزيه لجنرال يمارس إرهاب الدولة على مدار الساعة ضد معارضيه، ويعتاش على دمائهم، ويبني شرعيته على حساب أرواحهم وحريتهم.

لذا لم يكن غريباً، والحال كهذه، أن يحاضر ذاك الجنرال الإرهابي (والإرهابي هنا ليست وصفاً مجازياً، وإنما مصطلح منضبط منهجياً انطلاقاً من السلوك السياسي للسيسي مع معارضيه وشعبه)، على مستمعيه من الصحافيين الذين حضروا مؤتمره الصحافي الذي جمعه بماكرون عن مفاهيم الاستبداد والعنف حسب تصوّره!

فيطلب منهم، بكل وقاحة، بألا يصفوه بالمستبد! وألا يعتبروا بلاده دولة "عنيفة ومستبدة!". يقول هذا، وهو يبدو كما لو أنه يعاتبهم، وهو في الحقيقة يتوعدهم، بأن هذا "لا يليق!".

هكذا وصل الحال بالتنويريين العرب، والفرنسيين، أن يحاضرهم جنرالٌ أيديه ملطخة بدماء الأبرياء في مصر وخارجها. ولِمَ لا يفعل وهو في حضرة شخصٍ هو أقرب إلى السلطوية والاستبداد منه إلى الديمقراطية والحرية، يدافع عن قمع رجال الشرطة المتظاهرين في بلاده، بل ويسعى إلى حمايتهم عبر تشريع تم سنّه بذريعة حماية "الأمن العام"!

ولِمَ لا يفعل، وهو في حضرة سمسار حروب، وتاجر صراعات، لا يختلف كثيراً عن "مورّد الجنود والمرتزقة"، الجنرال السوداني محمد حمدان دقلو (حميدتي)، سوى بارتداء ربطة عنق أنيقة، وبدلة رسمية مرتفعة الثمن. أي أنه جنرال غير متوّج، وبدون نياشين!

كشأن غيره من التنويريين العرب، يتعامل "التنويري" ماكرون مع التنوير بالقطعة، وحسب المزاج، وحسب ما تقتضيه المصلحة، فهو تنويري فقط عندما يتعلق الأمر بمعاقبة "مسلمي" بلاده وقمعهم، حينها فقط يستحضر مقولته المُضحكة عن "القيم الإنسانية".

أما حين يتعلق الأمر بالخارج، فالبندقية والرصاص هما الحل ولتسقط أمامهما أية قيمة! هكذا بدا الأمر جليّاً حين رفض ماكرون، وبدون مواربة، ربط بيع السلاح الفرنسي لصديقه الجنرال المصري، بمسألة حقوق الإنسان. يقول صراحة، وبدون خجل، في المؤتمر الصحافي الذي جمعه مع ضيفه: "مبيعات السلاح لمصر غير مشروطة بتحسين حقوق الإنسان".

لا يُداري الرجل وقاحته، ولو من باب الدبلوماسية والذكاء، وكأن لسان حاله يقول للجنرال الإرهابي: اقتل كيفما تشاء، وإذا انتهى رصاصك، سنزوّدك بغيره!! إنه حقاً تنوير برائحة فوارغ الرصاص!

أما مأساة تنويريينا العرب فهي أنهم يدافعون عن "فرنسا متخيّلة" في أذهانهم، فرنسا الثورة في القرن الثامن عشر التي حطّمت أسوار سجن الباستيل، وأعدمت الملكية السلطوية، في بحثها عن الحرية، وليست فرنسا الحالية التي يتنافس سياسيّوها أيهم يكون أكثر يمينيةً وقبحاً في الداخل والخارج.

* د. خليل العناني أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

المصدر | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

فرنسا، ليبيا، خليفة حفتر، مصر، عبد الفتاح السيسي، إيمانويل ماكرون، حقوق الإنسان، التنوير،