فرنسا الاستعمارية.. نوايا ماكرون الحقيقية في لبنان

الخميس 4 فبراير 2021 01:56 ص

لم تكن موجات الصدمة التي أحدثها انفجار بيروت، في أغسطس/آب الماضي، محسوسة في محيط العاصمة اللبنانية فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.

وكشف الانفجار عن سوء إدارة فج لمخزون هائل من نترات الأمونيوم بقي طويلا في وسط ميناء بيروت بمعرفة كاملة من الحكومة اللبنانية، وكان للعلاقات التجارية مع سوريا "الأسد" يد في هذا أيضا.

وكان لبنان يعاني بالفعل من احتجاجات واسعة منذ أواخر عام 2019، ضد عقود من الفساد الحكومي والتضخم المفرط وانهيار الاقتصاد.

وأصبح انفجار بيروت في نهاية المطاف "القشة التي قصمت ظهر البعير" وسط حالة الإحباط المتزايدة للشعب اللبناني، والتي تفاقمت مع غياب القيادة في مشهد ما بعد الانفجار، حيث حشد المواطنون أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم المساعدة والخدمات بدلا من الحكومة.

وبينما كانت الحكومة اللبنانية غائبة عن المشهد، كان الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" من بين أوائل القادة الذين ظهروا وسط الفوضى والحطام، معربا عن استعداد بلاده لتقديم الدعم للشعب اللبناني.

وبينما كان "ماكرون" يمر عبر الأنقاض، أحاطت به لافتات وإشارات من سكان بيروت تطلب منه عدم تقديم أي مساعدات مالية للحكومة اللبنانية لأنهم يخشون أن تضع الحكومة اللبنانية "الفاسدة" هذه الأموال في جيبها. 

وكان عرض التضامن الفرنسي محاولة للتأكيد على التزام باريس بمعالجة محنة الشعب اللبناني، إلا أن البعض تساءل عما إذا كان الغرض دبلوماسيا بحتا أم خدعة علاقات عامة.

وتكشف نظرة أعمق أنه بالرغم من البادرة الإنسانية، فإن زيارة "ماكرون" في أعقاب الانفجار كانت خطوة استراتيجية للغاية، مع تداعيات شبه استعمارية.

وكانت النية الفعلية هي التأكيد على أنه بالرغم من غياب الحكومة اللبنانية، كانت فرنسا حاضرة ومسؤولة، على الأقل أكثر مما كان يُفترض سابقا.

  • الارتباط بفرنسا

ولم يبدأ التدخل الفرنسي في لبنان مع تشكيل الدولة اللبنانية عام 1943 فقط، بل بدأ مع الصليبيين الفرنسيين الذين شعروا، عند مرورهم بلبنان في طريقهم إلى القدس أنه من واجبهم دعم الكاثوليك اللبنانيين المحليين، الذين يُشار إليهم عادة باسم "الموارنة"؛ حيث اعتبروهم "متفوقين ثقافيا" على المسلمين.

وشرع الفرنسيين في مساعدة إخوانهم المسيحيين.

ولأعوام بعد الحروب الصليبية، ارتبط المسيحيون اللبنانيون بـ"إخوانهم المسيحيين" في فرنسا، في الوقت الذي نشبت فيه حروب بين الجماعات الدينية المختلفة في لبنان، المسلمون السنة والشيعة والطائفة الغامضة في جبال الشوف المسماة الدروز.

ولم يتم استئصال هذا الارتباط بفرنسا عبر الهوية المسيحية المشتركة على مر القرون، حيث يشعر العديد من المسيحيين اللبنانيين بتقارب أكبر مع فرنسا وتراثها المسيحي أكثر من جيرانهم العرب، الذين يرون أنهم مسلمون في الغالب و"شرقيون جدا"، حتى أن العديد من الموارنة يعتبرون أنفسهم "غربيين" أكثر.

وقد ذهب البعض إلى حد القول إنهم ليسوا عربا بل فينيقيين، أي الشعوب القديمة التي احتلت المناطق المعروفة الآن باسم لبنان وتونس وجنوب إسبانيا وصقلية وسردينيا.

وكان هذا التراث والهوية دافعا لانتزاع فرنسا للبنان بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، التي حكمت جزء كبير من الشرق الأوسط لأكثر من 500 عام.

ووقعت فرنسا اتفاقية "سايكس بيكو" مع بريطانيا عام 1916، والتي أرست الحدود الحديثة لدول الشرق الأوسط كما نعرفها، بما في ذلك إنشاء لبنان، الذي سيطرت عليه فرنسا كولاية استعمارية.

وبالرغم من الامتيازات الاستعمارية للاستيلاء على لبنان، مثل الوصول إلى ميناء بيروت، ومن أجل الاستفادة من العلاقات التاريخية مع الموارنة، استمرت فرنسا في مساعدتهم لتمكين وحماية "حلفائها" المسيحيين اللبنانيين من أي عداء سواء من المسلمين أو الدروز.

وكان هذا من بين أسباب تدخلها في تشجيع تطوير النظام السياسي الطائفي الذي لا يزال قائما في لبنان.

وأرسى هذا النظام، أو ما يعرف بـ "الميثاق الوطني"، أسس تقاسم السلطة الطائفية في لبنان، وأوجد الدولة اللبنانية المذهبية التي قسمت السلطة بين الطوائف الدينية، بقصد حفظ السلام والاستقرار.

  • مسرح النفوذ الفرنسي

وبالرغم من الاستقلال السياسي للبنان عام 1943، كانت البلاد مثالا نموذجيا للعبة الجيوسياسية.

ومثلما كانت فرنسا راعية للمجتمع المسيحي اللبناني، كذلك فعلت السعودية مع المسلمين السنة اللبنانيين، وفعلت إيران نفس الشيء مع الشيعة اللبنانيين من خلال "حزب الله".

وقداستثمر كل بلد في مصلحته الخاصة بغض النظر عن احتياجات اللبنانيين أنفسهم، الذين نادرا ما يستفيدون من التدخل الخارجي.

وبالنسبة لفرنسا، فإن مصلحتها الرئيسية في لبنان هي ضمان الاستقرار في بلد تحيط به الحرب في سوريا وتوترات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على بعد 3 ساعات فقط بالسيارة من الشمال إلى الجنوب.

وبالنسبة لـ "ماكرون"، فإن ضمان وجود فرنسي قوي في العالم، لا سيما في العالم "الفرانكوفوني" الذي يشمل لبنان، أمر حيوي للسياسة الخارجية الفرنسية.

وبصفتها مستعمرة سابقة وجزءا من الفرانكوفونية، (مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية والمرتبطة بإرثها الاستعماري) فإن زيارة "ماكرون" الفورية لشوارع بيروت حققت بالتالي مصلحة استراتيجية رئيسية، وهي إظهار أن العالم في حالة من الفوضى وأن فرنسا يمكن الاعتماد عليها.

ويشير هذا التكتيك إلى أنه إذا كانت فرنسا هي المنقذ للمسيحيين اللبنانيين، فيمكنها أن تكون منقذة لجميع اللبنانيين، بما في ذلك السنة والشيعة، وقد تعهدت بالقتال لأجلهم في الوقت الذي فشلت فيه الحكومة المحلية.

ويأتي ذلك أيضا في إطار مواجهة نفوذ "حزب الله" الذي تدخل تاريخيا لتوفير الاحتياجات الرئيسية ليس فقط للمجتمع الشيعي ولكن للمسيحيين أيضا، عندما فشلت الدولة اللبنانية في القيام بذلك.

ومع ذلك، فإن صورة المنقذ التي كان "ماكرون" يهدف إليها قد تضاءلت بسبب الأفعال على الأرض.

وفي اللقاءات السريعة التي عقدها مع القيادة اللبنانية خلال زيارته، كان نهج "ماكرون" متسلطا ومتعاليا، حيث طالب الحكومة اللبنانية بإعادة النظر في هيكلها الحالي.

وفي حين أنه لا يمكن إنكار الأسلوب الفاشل الذي تعاملت به الدولة اللبنانية على مدار الـ 30 عاما الماضية، فإن لهجة "ماكرون" تجاه الحكومة اللبنانية في الأسابيع التي تلت انفجار بيروت حولت الحديث من حوار دولة مع دولة إلى ديناميكية "حوار بين قوة استعمارية سابقة مع مستعمرة سابقة"، حيث شرع في تأنيب الحكومة اللبنانية لتقاعسها وفشلها في تحقيق نتيجة إيجابية.

ونقلت لهجة "ماكرون" من منزل السفير الفرنسي في لبنان رسالة خفية مفادها: "ما زلنا في موقع المسؤولية".

وبالرغم من كل مظاهر الفخر التي كان عليها "ماكرون" خلال زيارته، كان هناك القليل من النتائج المستدامة.

ورغم مطلب تشكيل حكومة جديدة من وزراء مستقلين لمعالجة مظالم الشعب اللبناني كعنصر رئيسي، استقال رئيس الوزراء المؤقت "مصطفى أديب"، الذي رشحه "ماكرون" بنفسه، وبحلول نهاية سبتمبر/أيلول 2020، كان من الواضح أنه لم تتحقق أي من نقاط العمل الرئيسية التي أعلن "ماكرون" أنها ستؤتي ثمارها، ما أدى إلى إعلان "ماكرون" أنه يشعر بـ"خيبة أمل كبيرة".

وبالنظر إلى الحالة الكئيبة في لبنان، كان من السذاجة والغباء أن يعتقد "ماكرون" أن فرنسا قادرة على تغيير لبنان بالسرعة نفسها التي حدثت بعد الانتداب الفرنسي.

ويُظهر أداء "ماكرون" أن النية لم تكن أبدا تعزيز حكومة أكثر مسؤولية، ولم يكن ذلك اهتماما بحقوق الإنسان.

وبدلا من ذلك، كانت فرنسا مشغولة بتحقيق مصالحها الاستراتيجية في لبنان وإظهار نفوذها هناك، وقد حقق "ماكرون" هذا الهدف من خلال إثبات أنه لا يمكن للسعودية ولا "حزب الله" ممارسة نفوذ حقيقي في لبنان كما فعلت فرنسا.

واستطاع "ماكرون" كسب حب ودعم اللبنانيين في بيروت، مع حشود اختلطت فيها المسيحيين والشيعة والدروز والمسلمين السنة على حد سواء، لملء الفراغ الذي خلفته اضطرابات الحكومة اللبنانية.

وفي نهاية المطاف، كانت زيارة "ماكرون" إلى لبنان في أعقاب انفجار بيروت ذات ميول استعمارية أكثر من كونها تعاطفا إنسانيا كبيرا ومستداما مع السكان المنهكين. 

وفي حين أن الأمر ربما بدا وكأنه بادرة تضامن أوروبي، نظرا للتاريخ عميق الجذور واهتمام فرنسا بلبنان، فإن الأمر لم يكن في الحقيقة أكثر من ممارسة للنفوذ تهدف إلى تعريف جميع المشاركين في الديناميكية السياسية اللبنانية من هو الزعيم الحقيقي.

وفي الواقع، يعرف "ماكرون" أن ذلك يمكن أن يخدمه جيدا في تجديد الصورة التي يريدها لفرنسا في لبنان.

المصدر | جيسو أنطونيو بايز/إنسايد أرابيا - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

العلاقات اللبنانية الفرنسية زيارة ماكرون انفجار بيروت الاستعمار الفرنسي الحكومة اللبنانية حزب الله احتجاجات لبنان مرفأ بيروت

شعبية ماكرون تتراجع.. 60% من الفرنسيين يرون سياساته سلبية

خلال اتصال هاتفي مع ماكرون.. بن سلمان يرفض مساعدة لبنان