نهج جديد.. هذا ما تكشفه معركة غزة عن تحولات السياسة الخارجية للصين

السبت 29 مايو 2021 09:05 م

في 21 مايو/أيار، وافقت حركة حماس وإسرائيل على وقف إطلاق النار بعد 11 يوما من القتال في معركة هي الرابعة منذ سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007. وفي الأعوام الأخيرة، برزت دبلوماسية الوساطة كإحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الصينية، مع تعمد بكين تصوير نفسها كصانعة سلام في منطقة الشرق الأوسط. ويساعد هذا النهج الصين على رسم صورة إقليمية ودولية باعتبارها دولة مهتمة بالاستقرار في المنطقة.

ومع ذلك، فإن صورة الصين الدولية ليست الدافع الوحيد وراء جهود الوساطة التي تنتهجها بكين. وبنفس القدر من الأهمية، تأتي الضرورة المتزايدة لاكتساب القوة والنفوذ مع التحولات الكبرى في ميزان القوى الإقليمي. وتستخدم بكين الوساطة لتعزيز مصالحها الاقتصادية وتأثيرها السياسي في البلدان والمناطق التي سيطر عليها أكبر منافس جيوسياسي مشترك للولايات المتحدة والصين سابقا.

وتشكل التوترات بين الصين والولايات المتحدة أحد العناصر الأساسية للتغير السريع في النظام الدولي. وتخوض الصين والولايات المتحدة منافسة جيوسياسية على عدة جبهات، خاصة في القارة الآسيوية. وفي العقود القادمة، سيحدد هذا التنافس المتنامي بين القوى العظمى القواعد والأعراف والمؤسسات التي تحكم العلاقات الدولية، فضلا عن مستويات السلام والازدهار في السياسة العالمية.

وتتزايد المنافسة بين مختلف القوى في الشرق الأوسط مع مؤشرات انسحاب الولايات المتحدة منها، بما في ذلك خفض عدد القوات وتراجع المشاركة الدبلوماسية.

ووسعت الصين من مشاركتها في الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة؛ بحيث أصبحت المنطقة الأكثر أهمية للمصالح الصينية خارج منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وكانت وفرة الهيدروكربونات، والموقع الجيوستراتيجي، والممرات البحرية الدولية الرئيسية، ونقاط الاختناق من قناة السويس وباب المندب إلى مضيق هرمز، قد جعلت الشرق الأوسط موقعا طبيعيا لمخطط الصين الكبرى وفق مبادرة "الحزام والطريق" العابر للقارات.

وخلال العقد الماضي، أدى تراجع نفوذ واشنطن ووجود بكين المتزايد في الشرق الأوسط إلى تحويل المنطقة إلى "ساحة معركة جديدة" للتنافس بين القوتين العظمتين. ومن ثم، فإن موقف الصين من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يرتبط بشكل أساسي بحفظ السلام وإدارة الصراع والسعي إلى الاستقرار الإقليمي في ظل التوتر المتزايد والمنافسة الجيوسياسية بين القوتين العظمتين.

وبالنظر إلى أن التنافس الاستراتيجي يبدو مشتعلا، فإن السؤال الوحيد الذي يطرحه أولئك الذين يتبنون هذا المنظور هو ما إذا كانت الصين قد تبنت موقفا حازما ونهجا دبلوماسيا غير متوازن في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكقوة صاعدة على المسرح الدولي، قد يؤدي التحول الكبير في نهج الصين الدبلوماسي إلى تغيير سياستها تجاه الشرق الأوسط.

الجدل في مجلس الأمن الدولي

وتقليديا، يعد مبدأ عدم التدخل أحد المبادئ الرئيسية للسياسة الخارجية والأمنية لبكين في الشرق الأوسط. واستند موقف الصين من المنطقة، كما هو الحال مع جميع مناطق العالم الأخرى، إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ذات السيادة.

وطورت بكين تدريجيا نهجا حكيما وعمليا للتعامل مع كل حالة على حدة، بالرغم أن مبدأ عدم التدخل أداة خطابية أساسية، فقد كانت هناك دائما درجة من المرونة في كيفية إدارة بكين لسياستها الخارجية والأمنية فيما يتعلق بعدم التدخل.

على وجه التحديد، لا تتدخل الصين في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ذات السيادة ما لم تكن مصالحها الوطنية أو الاقتصادية في خطر. علاوة على ذلك، كانت بكين تولي مزيدا من الاهتمام لسمعتها الدولية لإعطاء صورة إيجابية كقوة عظمى يمكن الاعتماد عليها أو مساهم رئيسي في المنطقة.

وكانت بكين حذرة بشأن الانخراط في الشؤون الإقليمية لتجنب الوقوع في ورطة الصراعات المتشابكة. ولكن مع توسع مصالحها الاقتصادية وحضورها الدبلوماسي، أبدت الصين اهتماما متزايدا بالانخراط في شؤون الشرق الأوسط، لا سيما في إطار مشروع مبادرة "الحزام والطريق" في المنطقة.

ولطالما صورت بكين نفسها على أنها داعم قوي للقضية الفلسطينية مع بناء علاقات سياسية واقتصادية وتكنولوجية أوثق مع إسرائيل. ووفقا لوزارة التجارة الصينية، زادت التجارة بين الصين وإسرائيل بنسبة 19% تقريبا في عام 2020 لتصل إلى نحو 17.5 مليار دولار، بالرغم من أزمة فيروس كورونا، في حين بلغت التجارة مع السلطة الفلسطينية 100 مليون دولار فقط.

ومنذ اندلاع الحرب في غزة، انتقدت الصين بشدة إسرائيل والولايات المتحدة أكثر من السابق. وسعت بكين إلى أن تكون صوتا رائدا في القضية الفلسطينية ودعت واشنطن لتحمل مسؤولياتها، وصورت الولايات المتحدة على أنها الصوت الوحيد الذي يدافع عن إسرائيل ولا يسمح لمجلس الأمن الدولي بإدانة تصرفات إسرائيل.

وفي 16 مايو/أيار، قال وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" إن الولايات المتحدة تعرقل محاولة من قبل مجلس الأمن للتحدث بصوت واحد عن أفعال إسرائيل في غزة. علاوة على ذلك، تحدث وزير الخارجية الصيني في اجتماع مجلس الأمن الدولي بشأن المعركة مدينا بشدة أعمال العنف الإسرائيلية ضد المدنيين، في حين لم يذكر الطلقات الصاروخية لحماس على إسرائيل. كما دعا إسرائيل إلى رفع الحصار عن غزة وضمان سلامة وحقوق الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وخلال برنامج تم بثه على شبكة "سي جي تي إن"، وهي وسيلة إعلامية صينية رسمية، أدلى الإعلامي "زينج جونفينج" بتعليقات معادية لليهود، وتساءل عما إذا كان دعم واشنطن لإسرائيل يستند حقا إلى القيم الديمقراطية المشتركة، قائلا: "يعتقد بعض الناس أن سياسة الولايات المتحدة المؤيدة لإسرائيل ترجع إلى تأثير اليهود الأثرياء في الولايات المتحدة واللوبي اليهودي على صناع السياسة في الولايات المتحدة". وأشار أيضا إلى أن واشنطن، أكبر منافس جيوسياسي لبكين، استخدمت إسرائيل كـ"جسر" إلى الشرق الأوسط وكوكيل في حملتها لإخضاع العرب.

واحتجت سفارة إسرائيل في الصين على "معاداة السامية الصارخة" التي تم التعبير عنها خلال البرنامج، قائلة: "كنا نأمل أن تنتهي أوقات نظريات المؤامرة حول سيطرة اليهود على العالم. للأسف، أظهرت معاداة السامية وجهها القبيح مرة أخرى".

المنافسة الجيوسياسية

فلماذا أصبحت الصين الآن صريحة ومعادية لما تعتبره الولايات المتحدة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد جماعة فلسطينية مسلحة شنت هجمات صاروخية عليها؟" ويعتبر هذا السؤال مهما، بالنظر إلى أن بكين لها مصالح خاصة في إسرائيل، وبالنظر إلى أن تل أبيب لاعب رئيسي في استراتيجية الصين الاقتصادية العالمية.

ومنذ تدشين العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإسرائيل، تطور التعاون بسرعة في مختلف المجالات، بما في ذلك الدبلوماسية والتجارة والاستثمار والبناء والشراكات التعليمية والتعاون العلمي والسياحة. وبالنسبة لبكين، تعتبر إسرائيل قوة عالمية في مجال التكنولوجيا والابتكار في الأمن السيبراني والزراعة الحيوية والتكنولوجيا الخضراء، وهي في قلب اهتماماتها. ومن الناحية الجيوسياسية أيضا، يعد موقع إسرائيل عقدة محتملة أخرى في إطار مبادرة "الحزام والطريق".

لذلك، يبدو أن ردود الفعل والتعليقات الصينية على العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تستهدف الولايات المتحدة، بمعنى آخر، فإن الانتقادات الصينية تتعلق بالتوتر المتصاعد والمنافسة الجيوسياسية بين القوتين العظمتين، وكذلك اتهامات واشنطن ضد معاملة الصين للمسلمين الإيجور، أكثر مما تتعلق بإسرائيل.

وفي 12 مايو/أيار، عقدت الدول الغربية وجماعات حقوق الإنسان فعالية عن بعد في الأمم المتحدة حول معاملة بكين، المتهمة بارتكاب إبادة جماعية، لمسلمي الإيجور والأقليات العرقية في مقاطعة شينجيانج الغربية.

وردا على ذلك، بعد يومين، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية "هوا تشونين" إن "الولايات المتحدة تتجاهل معاناة المسلمين. وتستمر واشنطن في القول إنها تهتم بحقوق الإنسان للمسلمين. والآن يتكرر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وقد تأثر العديد من المسلمين الفلسطينيين بالحرب. هم يعانون، لكن واشنطن لا تبالي بمعاناتهم وعرقلت بشدة أي حلول لهذه القضية في الوقت الذي انضمت فيه واشنطن إلى عدد قليل من حلفائها وحاولت تنظيم اجتماعات لا طائل من ورائها حول القضايا المتعلقة بشينجيانج على أساس الأكاذيب والتحيز السياسي. هذه مهزلة سياسية".

علاوة على ذلك، في جلسة افتراضية لمجلس الأمن الدولي حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في قطاع غزة، دعا وزير الخارجية الصيني "وانج يي" واشنطن إلى تعديل موقفها بشأن الصراع بين إسرائيل وغزة، مؤكدا أن الولايات المتحدة تقف على الجانب الآخر من المجتمع الدولي.

ووفقا لوكالة أنباء "شينخوا" التي تديرها الدولة، ففي محادثة هاتفية مع وزير الخارجية الباكستاني "شاه محمود قريشي"، ألقى وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" باللوم على الولايات المتحدة في عدم قيام مجلس الأمن الدولي باتخاذ إجراءات لوقف تصعيد العنف بين إسرائيل وحماس، قائلا: "للأسف، فشل المجلس حتى الآن في التوصل إلى اتفاق، مع وقوف الولايات المتحدة على الجانب الآخر من العدالة الدولية".

وتؤكد الصين أن موقفها من الصراع في الشرق الأوسط يستند إلى قيم، على عكس موقف الولايات المتحدة. ومن وجهة نظر بكين، فإن واشنطن تقف على أهبة الاستعداد لتأجيج التوتر بدلا من اتخاذ إجراءات استباقية لإحباط الصراع بين إسرائيل وغزة. وبحسب موقع وزارة الخارجية الصينية على الإنترنت، "تم عزل الولايات المتحدة في مجلس الأمن بشكل غير مسبوق وهي تقف على الجانب الآخر من ضمير البشرية وأخلاقها. وفي الوقت الذي تدعم فيه الصين العدالة الدولية، تهتم الولايات المتحدة فقط بمصالحها. إن موقف الولايات المتحدة يمليه تحيزها لطرف بعينه".

وكانت تصريحات الصين تستغل الوضع الحالي لعزل واشنطن في المجتمع الدولي، والرد على انتقاد إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" الأخير لمعاملة بكين لمسلمي الإيجور في شينجيانج. كما تعد تصريحات الصين محاولة لتقويض الثقة الإقليمية والدولية في الولايات المتحدة. وتضغط بكين من أجل نفوذ عالمي أكبر في الأمم المتحدة لتحدي القيادة التقليدية للولايات المتحدة ونفوذها في المنظمات الدولية الأخرى.

وبصرف النظر عن إدانة إدارة "بايدن"، ستقدم بكين مساعدة إنسانية طارئة بقيمة مليون دولار لعلاج الجرحى وإعادة توطين المشردين فضلا عن 200 ألف جرعة من لقاحات "كوفيد-19". وتعهدت بكين بتقديم مليون دولار أخرى لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".

ووفقا للمتحدث باسم وزارة الخارجية "تشاو ليجيان"، فإن الصين "ستواصل تقديم الدعم الإنساني في حدود قدراتها والمشاركة بنشاط في إعادة إعمار غزة وفقا لاحتياجات الجانب الفلسطيني".

وخلال الحرب، حاولت الصين (تتولى رئاسة مجلس الأمن) عدة مرات الخروج بقرارات لخفض التصعيد بين إسرائيل وحماس. ومع ذلك، فقد فشل هذا الجهد بسبب معارضة الولايات المتحدة.

وفي 13 مايو/أيار، أعربت الصين عن "درجة عالية من القلق" بشأن الاشتباكات الدامية بين إسرائيل وحماس وحثت مجلس الأمن الدولي على تهدئة التوترات وتنفيذ حل الدولتين. وفي اليوم التالي، عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعا طارئا آخر بعد أن حثت الصين والنرويج وتونس المجلس على معاودة الانعقاد بالرغم من مقاومة واشنطن.

وقبل ذلك، امتنعت الولايات المتحدة أيضا عن تبني بيان رئاسي لمجلس الأمن بشأن القضية الفلسطينية. ونتج عن الاجتماع النهائي، الذي عُقد في 16 مايو/أيار، مأزق سياسي ما دفع الصين إلى حث الولايات المتحدة على وقف "عرقلة" المجلس من أجل اتخاذ إجراءات بشأن النزاع ودعم جهوده لتخفيف التوترات وإيجاد حل سياسي.

ويبدو أن الصين حريصة على وضع نفسها كوسيط سلام بديل، مستفيدة من إخفاقات إدارة "بايدن" أو عدم رغبتها في حل النزاعات في الشرق الأوسط. وكانت هجمات الصين على واشنطن في الأمم المتحدة جزءا من جهودها لوضع نفسها كشريك لجهود الوساطة الأمريكية في الشرق الأوسط.

ومع ذلك، فإن تطلعات الصين لدور قيادي ووسيط بديل في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من المرجح أن تكون محدودة بسبب افتقارها إلى نفوذ كبير وخبرة الوساطة، وهيمنة الولايات المتحدة في هذه القضية. وفي أحسن الأحوال، يمكن أن تلعب بكين دورا داعما في الجهود التي تقودها الولايات المتحدة.

الخلاصة

خلال الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة، وجدت الصين فرصة جيوسياسية لتعزيز مصالحها الوطنية، خاصة سياستها في شينجيانج وتقديم نفسها كصانعة سلام، في ظل التوتر المتصاعد والمنافسة الجيوسياسية بين القوتين العظمتين. واستغلت بكين الأزمة الحالية في غزة لصرف الجدل الدولي حول معاملتها لمسلمي الإيجور في شينجيانج.

وقامت الصين، عن غير قصد، بجر إسرائيل إلى التنافس بين القوتين العظمتين لتدمير صورة واشنطن وبالتالي الإضرار بمكانتها في المجتمع الدولي. وبالرغم أن "زهرة واحدة لا تصنع ربيعا"، فقد أصبح الشرق الأوسط "ساحة معركة جديدة" للتنافس بين القوتين العظمتين. وقد أوضح الجدل العام حول معركة غزة هذه الظاهرة بوضوح.

المصدر | مردكاي تشازيزا - ميدل إيست آي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

حارس الأسوار سيف القدس غزة تحت القصف العلاقات الصينية الإسرائيلية مجلس الأمن شينجيانج الإيغور المنافسة الجيوسياسية العلاقات الصينية الأمريكية

ضمن مبادرة للشرق الأوسط.. الصين تعتزم استضافة محادثات فلسطينية إسرائيلية