أمريكا تعود مختلفة إلى عالم هو نفسه اختلف
دول الحلف الغربى وأمريكا فى صدارتها أدركت مبكرا أن أمريكا العائدة تغيرت والغرب بأسره ينحدر.
تواجه أمريكا العائدة اليوم منافسة من الصين القطب الصاعد بشراسة وكفاءة وبإمكانات مستقبلية شبه خرافية.
أمريكا العائدة اليوم دولة عظمى لكن منسحبة تمزقها انقسامات عنصرية وطبقية وأيديولوجية وكلها حادة وعنيدة ومتصاعدة.
أغلب قادة أوروبا ومعهم نخبة أمريكا اجتمعوا على قرار جوهره تزاحم جديد على أفريقيا بعد أن اتضح أن الصين سبقتهم إليها منفردة.
أمريكا العائدة اليوم هددت أمن وعقيدة الغرب بانتخابها رئيسا لا يحترم الدستور الاحترام الواجب ولا يكترث بأحوال حقوق الإنسان فى بلاده وخارجها.
أمريكا «النخبة السياسية الحاكمة والمصالح الدائمة»، لم تغب! هى موجودة فى عهد ترامب وموجودة الآن فى عهد بايدين وكانت موجودة بعهد الصراع مع السوفييت.
صنع بايدن وأعوانه الأصغر سنا حلما أو وهما كبيرا خلال الحملة الانتخابية أنهم عبر سلسلة قمم متتالية سيقنعون قادة الحلفاء بالغرب أن أمريكا التي انتظروا عودتها عادت!
* * *
مع شعار «أمريكا عادت» طار الرئيس جوزيف بايدين إلى أوروبا. حمل فى حقائب سفره حلما، أو وهما، كبيرا صنعه هو وأعوانه الأصغر سنا خلال الحملة الانتخابية. وصل وفى ذهنه وأذهانهم أنهم ومن خلال سلسلة قمم متتالية سوف يقنعون الحلفاء من قادة دول الغرب أن أمريكا التى هم فى انتظار عودتها عادت.
أعدوا حزمة كاملة ومتكاملة من الأفكار وحشروها حشرا فى سيل من خطب وتصريحات ومداخلات يلقيها الرئيس بايدين. سمعنا من على البعد ما سمعه القادة الحلفاء والرأى العام الأوروبى وما سمعه معنا قادة فى الصين وروسيا وفى أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
سمعنا اعتذارات صريحة أو مغلفة عما تسبب فيه عهد الرئيس ترامب من تصدعات وأضرار، وسمعنا وعودا وتعهدات أن لا يعود إليها قادة اليوم فى واشنطن.
قضى الحلفاء، ونحن وغيرنا من على البعد معهم، أسبوعا تحت وابل هذه الحملة من جهود الإقناع بأن أمريكا عادت، وأن الحلف سوف يستأنف مسيرته بقوة أكبر.
ولتأكيد هذا الأمل تطرح أمريكا تصورات أغلبها فى شكل توصيات:
- توصية منها تدعو لتوقيع ميثاق أطلسى ثانٍ يجدد دماء الميثاق الأول الذى وقعه روزفلت وتشرشل فى عام 1941،
- وتوصية أخرى مستوحاة من ظروف الحرب الباردة التى نشبت فى ظرف آخر بين أمريكا والغرب عموما من ناحية والاتحاد السوفييتى من ناحية أخرى، لتطبق هذه المرة مع الصين،
- وتوصية ثالثة بضرورة استنساخ التجربة ذاتها مع روسيا الوريث الطبيعى للاتحاد السوفييتى.
* * *
كان التركيز على الصين فى خطب بايدين فى القمم الغربية كخطر داهم يهدد العالم الغربى الاقتباس الأهم من الخطاب السياسى لحكومة عهد ترامب. لم يستحِ أعوان الرئيس بايدين من حرفية الاقتباس بل إنهم أضافوا إليه ما لم يأت فيه أصلا أو بدرجة هامة مثل المسائل الحقوقية فى هونغ كونغ وقضية شعب الإيغور فى مقاطعة شين غيانغ.
فهمنا من هذا، أو فهم البعض منا، أن أمريكا العائدة الآن تنتقى من سياسات أمريكا الترامبية ما يناسب ويفيد. بمعنى آخر يبقى أن أمريكا «النخبة السياسية الحاكمة والمصالح الدائمة»، لم تغب. هى موجودة فى عهد ترامب وموجودة الآن فى عهد بايدين، وموجودة كانت فى عهد الصراع مع الاتحاد السوفييتى.
وراء الانفتاح على الصين الشيوعية فى عهد الرئيس نيكسون ومساعده كيسنجر ظروف وأهداف ومصالح. كانت الخلافات الأيديولوجية وعلى الحدود بين بكين وموسكو فاتحة لشهية كيسنجر للاستفادة منها فى حربه الباردة مع روسيا.
كانت هناك أيضا الرائحة التى تسربت من بكين عن نية الرئيس ماو الإقدام على حملة إصلاحات داخلية فى أعقاب الثورة الثقافية تماديا من جانبه فى تطبيق نظرية الثورة الدائمة.
بعد قليل صارت الصين سوقا رائعة للاستثمارات والصادرات الأمريكية وصارت أمريكا سوقا أكثر روعة لصادرات الصين وكنزا مفتوحا للاختراعات والملكيات الفكرية والتجارب الصناعية.
لم تمر ثلاثة عقود إلا وأثمرت العلاقة الأمريكية الصينية جماعة مصالح أمريكية تعتبر الصين منافسا خطيرا ثم مصدر تهديد لمكانة أمريكا.
تبنت حماية هذه المصالح جماعات يمينية وعنصرية ومؤسسات سياسية واستراتيجية وجدت فى عهد ترامب فرصة ذهبية لتهيمن على مؤسسة السياسة الخارجية فى كلا الحزبين وفى المؤسسة العسكرية.
بكلمات أخرى كانت أمريكا الغائبة عن حلفها الغربى فى عهد الرئيس ترامب وأمريكا العائدة إليه على يد الرئيس بايدين كلاهما معبأتان بفكرة أن الصين صارت تمثل تحديا لأمريكا وخطرا عليها.
* * *
لا يغيب عن البال حقيقة قديمة واستجدت. ففى عامى 1884 و1885 عقد مؤتمر فى برلين جرى فيه التزاحم على أفريقيا وانتهى برسم حدود سياسية مصطنعة للقارة «السوداء» وتوزيع أقاليمها على الدول الأوروبية السبع فيما عرف بالإمبريالية الجديدة.
لا أزعم أن هناك شبها دقيقا بين ما وقع فى 1884 فى برلين وما وقع فى بعض عواصم أوروبا فى الأسبوع الجارى. إنما ما أزعمه عموما هو أن أغلب القادة الأوروبيين ومعهم نخبة الولايات المتحدة اجتمعوا على قرار جوهره تزاحم جديد على القارة السمراء بعد أن اتضح أن الصين سبقتهم إليها منفردة.
حتى المفارقة تفرض نفسها!
ففى مؤتمر التزاحم أواخر القرن التاسع عشر كانت ألمانيا تحديدا هى الدولة الأوروبية التى فاتها المشاركة فى الإمبريالية الأولى وأن الدولة التى تقابلها فى الشبه والدور والدافع في الأسبوع الجارى من مؤتمرات القمة فى أوروبا الغربية هى الولايات المتحدة.
صحيح أنه لم يفتها تماما نصيب من التمتع بمزايا الإمبريالية الجديدة، ولكن الأمر الواضح، وهو الذى سعت وتسعى النخبة الأمريكية لتعديله هو أن النخبة الأقدم أولت اهتماما أكبر لمزايا وعوائد الجغرافيا السياسية على حساب مزايا وعوائد الاستعمار المباشر بجغرافيته الاقتصادية، وهو الاستعمار الذى استمرت تطبقه دول أوروبية مستخدمة أساليب مختلفة وبخاصة فرنسا قبل أن تنضم إليها وباكتساح مشهود الصين مستخدمة أسلوب مبادرة الحزام والطريق.
أخيرا تنبهت الولايات المتحدة ودول أخرى فى الحلف الغربى إلى ضخامة العائد للصين نتيجة إنتهاجها سياسات تنموية فى دول العالم النامى وداخل بعض دول الحلف فراحت فى قمم الأسبوع الجارى تعجل بتعويض هذا التقصير من جانب الغرب.
* * *
تبقى لنا الإشارة إلى حذر أوروبى ملحوظ. أمريكا العائدة ليست تماما أمريكا المرجوة عودتها. عادت إلى موقع القيادة فى الحلف الأطلسى أمريكا أوباما مع تغيرات بسيطة وبعيدة عن الجوهر.
لم تعد إلى موقع القيادة أمريكا التى وقعت على ميثاق الأطلسى الأول، أو أمريكا التى أنقذت أوروبا فى الحرب العالمية وتبنت مشروع مارشال، أحد أهم مشاريع إعادة الإعمار فى التاريخ المعاصر، أو أمريكا المتفوقة حالا وخلال مستقبل مرئى على كل ما عداها دولة دولة أو تجمعا لدول.
أمريكا العائدة اليوم دولة عظمى ولكن منسحبة، تمزقها فى داخلها الانقسامات، منها العنصرى ومنها الطبقى ومنها الأيديولوجى وكلها حادة وعنيدة ومتصاعدة. هى أيضا تواجه منافسة من الصين، القطب الصاعد بشراسة وكفاءة وبإمكانات مستقبلية شبه خرافية.
أمريكا العائدة اليوم هددت أمن وعقيدة الغرب بانتخابها رئيسا لا يحترم الدستور الاحترام الواجب ولا يكترث بأحوال حقوق الإنسان فى بلاده وخارجها. المثير فى الأمر أن دول الحلف الغربى، وأمريكا فى صدارتها، أدركت مبكرا أن أمريكا العائدة تغيرت والغرب بأسره ينحدر.
* جميل مطر مفكر سياسي عربي ودبلوماسي مصري.
