الوطن الأزرق.. كيف طورت تركيا استراتيجيتها في شرق المتوسط؟

الأحد 1 أغسطس 2021 05:36 م

مع تلاشي أحلام تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، غيرت أنقرة استراتيجيتها تجاه الغرب. ولا يوجد مكان يتجلى فيه هذا الأمر أكثر من شرق البحر الأبيض المتوسط. وتهدف التحركات الأخيرة التي قام بها الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، مثل زيارة جمهورية شمال قبرص التركية والإعلان عن استئناف التنقيب عن الطاقة في المنطقة، إلى تأكيد أنه سيواصل متابعة استراتيجية "الوطن الأزرق".

وقد تكون هناك شكوك في إمكانية تطوير أي اكتشافات كبيرة في شرق البحر المتوسط في ظل المناخ الحالي، لكن تركيا بحاجة إلى ردع التهديدات التقليدية على طول ساحلها وقد يكون استكشاف الطاقة هو أفضل مبرر لذلك.

وفي الوقت نفسه، أوجد الوباء حقائق اقتصادية معقدة تزيد من احتمالية خروج التوترات في شرق المتوسط ​​عن سيطرة أنقرة.

التطورات الأخيرة

وبعد أن بلغت ذروتها الصيف الماضي، يبدو أن التوترات قد تراجعت بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، خاصة اليونان، بشأن التنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل قبرص. ومع ذلك، لا يوجد حتى الآن حوار بناء بين الطرفين.

وفي 20 يوليو/تموز، زار "أردوغان" شمال قبرص وقال إن جهود الأمم المتحدة لتوحيد الجزيرة، المقسمة بين جنوب يسيطر عليه القبارصة اليونانيون وشمال تركي، قد باءت بالفشل. وقال إنه يجب التخلي عن تلك الاستراتيجية لصالح حل الدولتين. كما أيد "أردوغان" افتتاح بلدة "فاروشا"، التي كانت ذات يوم أفضل منتجع في الجزيرة، لكن سكانها القبارصة اليونانيين فروا خلال عمليات عسكرية تركية عام 1974.

وجاءت زيارة "أردوغان" إلى شمال قبرص بعد 3 أيام فقط من حديث مندوب تركيا لدى الأمم المتحدة مع الأمين العام للأمم المتحدة حول "الانتهاكات الصارخة المستمرة" لليونان للقانون الدولي في بحر إيجة والبحر المتوسط. وقال المندوب التركي إن أثينا عسكرت الجزر القريبة من تركيا والتي من المفترض أن تظل منزوعة السلاح، بموجب معاهدة لوزان عام 1923.

وتريد تركيا تعديل أو إلغاء المعاهدة التي منحت اليونان السيادة على الجزر القريبة من الساحل التركي، بما في ذلك الحق في التنقيب عن الموارد الطبيعية واستخراجها من البحر، وبالتالي حرمان تركيا من منطقة اقتصادية خالصة كبيرة.

وبينما احتل افتتاح "فاروشا" والتصريحات حول حل الدولتين لقبرص عناوين الصحف، من المهم ملاحظة أنه قبل الزيارة قال "أردوغان" أيضا إن تركيا ستواصل استكشاف الطاقة في شرق المتوسط. ويبدو أن هذا الإعلان يعكس التصريحات السابقة التي تعد بتقليل الاستفزازات.

وكان اكتشاف موارد الطاقة هو الذي أحيا الخلافات طويلة الأمد بين تركيا واليونان. وفي عامي 2019 و2020، اندلعت التوترات بين أنقرة وأثينا حيث أرسلت تركيا سفن أبحاث زلزالية إلى المياه المتنازع عليها بين اليونان وجمهورية قبرص، وتدخلت في الحرب الأهلية الليبية، ووقعت اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع طرابلس.

وفي الواقع، وجدت المنطقة نفسها في أوائل القرن الـ21 في واقع مختلف تماما عما كان عليه قبل بضعة عقود. وكانت عودة ظهور التهديد الروسي، وتزايد عدوانية إيران، وضعف الاتحاد الأوروبي بسبب مشاكله الاجتماعية والاقتصادية، وتنامي التحالف المناهض لتركيا في الشرق الأوسط، عوامل أجبرت أنقرة على إعادة التفكير في موقفها في المنطقة.

علاوة على ذلك، فإن المشاكل الاقتصادية للبلاد والتي سبقت الوباء ولكن أصبحت أكثر تعقيدا منذ ظهوره، قد أضافت إلى قائمة مشاكل الحكومة التركية. وبدأت أنقرة بالفعل في تبني عقيدة عسكرية أكثر حزما واستقلالية مع تحولها بعيدا عن الغرب، والذي بدأ بمجرد أن أصبح واضحا أن تركيا لن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي، بالرغم من كونها عضوا في "الناتو".

وبالنظر إلى السياق الحالي، يجب أن يُنظر إلى الخلاف الدبلوماسي بين تركيا والأمم المتحدة، فضلا عن النزاع المتجدد بين تركيا واليونان، على أنه جزء من إعادة ترتيب محتملة بين القوى الإقليمية التي ستؤثر على تحالفات استراتيجية أوسع.

ملخص النزاعات التركية اليونانية

تم التوقيع على معاهدة لوزان في 24 يوليو/تموز 1923. وأنهت المعاهدة الأعمال العدائية بين تركيا واليونان في نهاية الحرب العالمية الأولى وخاصة بعد حرب الاستقلال التركية، عندما طردت قوات "مصطفى كمال أتاتورك" اليونانيين من الأناضول، وبالتالي احتفظ اليونانيون بمعظم جزر بحر إيجة.

وفي ذلك الوقت، كانت قبرص مستعمرة بريطانية. وأدت شروط المعاهدة إلى المصالحة بين البلدين خلال فترة ما بين الحربين، حتى أنهما وقعا معاهدة صداقة في عام 1930 ومعاهدة البلقان في عام 1934.

ومع ذلك، ساهمت عدة أحداث في تدهور العلاقات الثنائية بعد الحرب العالمية الثانية. أولا، تنازلت إيطاليا المهزومة عن أرخبيل "دوديكانيز" في جنوب بحر إيجة لليونان، ما أزعج تركيا التي لم تدخل الحرب ضد دول المحور حتى فبراير/شباط 1945، ما جعلها متأخرة جدا لدرجة أنها لم تحصل على أي غنائم.

ثانيا، أثار إنهاء احتلال قبرص نزاعات خطيرة بين اليونانيين والأتراك الذين يعيشون على الجزيرة، خلال عملية بناء الدولة القبرصية. وفي عام 1974، انهار التوازن الهش عندما أطاح المجلس العسكري اليوناني بنظام رئيس الأساقفة "مكاريوس الثالث"، وهو من دعاة استقلال الجزيرة ومعارض للتدخل اليوناني في الشؤون القبرصية، ما أدى إلى تدخل عسكري تركي في شمال الجزيرة.

وبالرغم من محاولات المجتمع الدولي لإيجاد حلول دلوماسية، أدى التدخل التركي ذلك إلى تقسيم الجزيرة وإنشاء جمهورية شمال قبرص التركية المعلنة من جانب واحد في عام 1983، والتي تعترف بها تركيا فقط.

ثالثا، أدى تطوير اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في الخمسينيات من القرن الماضي إلى نزاع دائم بين أثينا وأنقرة، حيث رفضت الأخيرة الانضمام إلى الاتفاقية التي قالت إنها تمنح اليونان سيادة كاملة في بحر إيجه.

وقالت تركيا إنه إذا وسعت اليونان مياهها الإقليمية في بحر إيجه إلى 12 ميلا بحريا، فإن تركيا ستعتبر ذلك إعلان حرب. وفي مناسبتين، عامي 1987 و1996، كادت الخلافات بين الدولتين أن تتحول بالفعل إلى حرب. ولكن بعد أن تقدمت تركيا بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1999، تراجعت هذه التوترات حتى تجددت مرة أخرى لاحقا.

تأثير حضور الاتحاد الأوروبي وغيابه

وتدهورت العلاقات بين أنقرة وأثينا ببطء منذ أن أدركت تركيا أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لم يعد ممكنا، فيما انضمت قبرص (الرومية) إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004.

وجعلت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في أوروبا، إلى جانب أزمة اللاجئين، أنقرة تغير علاقتها مع بروكسل. وبالنظر إلى أن أحد طرق الهجرة الرئيسية من الشرق الأوسط يمر عبر بحر إيجه، كان على تركيا والاتحاد الأوروبي، ولا سيما اليونان باعتبارها الدولة المستقبلة الأولى، التعاون في إدارة تدفق المهاجرين.

وفي الوقت نفسه، حاولت تركيا ترسيخ مكانتها كدولة عبور رئيسية داخل ممر إمدادات الغاز الجنوبي لأوروبا من خلال مشاركتها في خطوط أنابيب "تاناب" و"ترك ستريم" التي تنقل الغاز من القوقاز وروسيا.

وعندما حدثت اكتشافات الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، تزايدت طموحات تركيا في أن تصبح مركزا إقليميا للطاقة، حتى مع تراجع ​​الآمال في تحسين العلاقات بين تركيا وقبرص واليونان. وبعد فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات بشأن مصير قبرص عام 2017، أعلنت جمهورية قبرص استئناف جهود استكشاف الطاقة في المنطقة. ونددت تركيا بالقرار باعتباره انتهاكا لحقوق القبارصة الأتراك، وأطلقت "سياسة الزوارق الحربية"، فأرسلت سفنا حربية لمنع هذه المبادرة وإجراء عمليات الاستكشاف الخاصة بها في المناطق المتنازع عليها.

وبغض النظر عن تركيا وقبرص واليونان، فإن إسرائيل هي المستفيد الأول من اكتشافات الغاز من المنطقة حيث برزت كمصرد للغاز منذ اكتشافه في عام 2010. وانضمت مصر إلى نادي الغاز في عام 2011. وتربط البلدين علاقات معقدة مع تركيا مما زاد من تعقيد الموقف التركي في المنطقة، خاصة أن اليونان وقبرص وإسرائيل اقتربت من بعضها البعض بعد اكتشافات الغاز الأولى.

الوطن الأزرق

أقامت كل دولة مناطق اقتصادية خالصة فوق المناطق التي تم اكتشاف الطاقة فيها، وأدى ذلك إلى الاستيلاء على مناطق معينة، مما جعل تركيا تشعر كما لو كانت محاصرة مرة أخرى.

ودفعت هذه التطورات تركيا إلى تطوير استراتيجية "الوطن الأزرق" والتي تتضمن تطوير أسطولها البحري لتعزيز قدرتها على حماية المصالح التركية في الخارج. وفي ظل حكم "أردوغان"، أصبح مصطلح "الوطن الأزرق" مرادفا لتسمية المناطق البحرية التي قيل إن تركيا حُرمت منها ظلما في محيطها القريب.

وكان مشروع "الوطن الأزرق" المبرر لتدخل تركيا في ليبيا في عام 2019 وتوقيع معاهدة ثنائية حددت المنطقة الاقتصادية الخالصة مع ليبيا في شرق البحر المتوسط. ويأمل "أردوغان" في فتح ممر خلال المواقع اليونانية في بحر إيجه وحقول الغاز في شرق المتوسط ​​والسيطرة على المساحة التي سيعبر من خلالها خط أنابيب غاز محتمل تحت الماء سيبنيه كونسورتيوم يوناني قبرصي إسرائيلي.

وليس الهدف من استراتيجية "الوطن الأزرق" توسيع النفوذ التركي في الخارج فقط، ولكن أيضا خدمة العديد من المصالح المحلية والمالية لتركيا. وينطوي المفهوم ضمنيا على فكرة أن تركيا يجب أن تهيمن على البحر المتوسط ​​وأن تستعيد القوة التجارية والبحرية التي كان العثمانيون يحتفظون بها.

وتقول تركيا إن الموقع الجغرافي لتركيا هو مصدر قوة وليس نقطة ضعف. ومن شأن وجود بحري قوي في البحر المتوسط، ولا سيما في الشرق​​، أن يسمح لتركيا بتأكيد مطالباتها باحتياطيات النفط والغاز في المياه المتنازع عليها هناك. ومن شأن ذلك أن يساعد أنقرة على أن تصبح مركزا للطاقة وتحقق استقلال في مجال الطاقة مما يخدم أهداف الحزب الحاكم محليا.

إدارة حذرة

وبالنظر إلى تأثير الوباء على أسواق الطاقة، من الصعب تصديق أنه سيتم إنشاء خط أنابيب للغاز تحت مياه البحر المتوسط ​​في أي وقت قريب. لذا، بالرغم أن الظروف الحالية تدفع أنقرة لاتخاذ المزيد من الإجراءات، فإنها بحاجة إلى التصرف بحذر في شرق المتوسط خاصة مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمربها. وباختيار الدبلوماسية أولا، تستطيع أنقرة إبقاء خياراتها مفتوحة.

وفيما يخص "فاروشا"، قال "أردوغان" إن الأمم المتحدة فشلت في حل القضية وأعرب عن دعمه لفتح المدينة للسكن، فيما حثه الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن على عدم القيام بذلك. وكانت هذه طريقة ذكية من "أردوغان" لتذكيرهم بأنه لا يزال موجودا ويمكنه زعزعة استقرار شرق المتوسط ​​إذا أراد ذلك.

من ناحية أخرى، تعتمد اليونان على الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو" لاحتواء طموحات تركيا. وتكمن مشكلة الاتحاد الأوروبي في أن الدول الأعضاء فيه منقسمة حول كيفية حل الأزمة المحتملة في شرق المتوسط. واختارت فرنسا دعم اليونان، بينما تتجنب ألمانيا التدخل المباشر في الأمر. ومع توقع حدوث موجة أخرى من الهجرة بعد أي اضطرابات، يرى الاتحاد الأوروبي أهمية إدارة علاقته مع تركيا بحذر.

وداخل حلف "الناتو"، الذي يضم كل من اليونان وتركيا، أصبحت الأمور أكثر تعقيدا. أولا، هناك العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، وهي مهمة لدرجة تجعل من الصعب انهيارها وإن كانت متوترة. وربما تكون الولايات المتحدة قد خفضت من تواجدها العسكري في الشرق الأوسط، لكنها لن تقبل أبدا التضحية بأسرع رابط بحري بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي.

علاوة على ذلك، تعتمد استراتيجية الولايات المتحدة تجاه روسيا على الاحتواء والعمل الوقائي من خلال "الناتو". وكلما ازدادت التوترات بين اليونان وتركيا، زاد انقسام "الناتو"، وهو ما لا تريده واشنطن. وبالنظر إلى تزايد المشاعر المعادية لتركيا في الشرق الأوسط وصعود روسيا وإيران، تحتاج تركيا أيضا إلى الحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة.

وبالرغم أنها تبدو هادئة من بعيد، فإن مياه البحر الأبيض المتوسط ​​تموج بالكثير من الاضطرابات في الشرق؛ حيث السفن القتالية والطائرات، والتناوب بين الشرطة البحرية، والمهام العسكرية الأساسية، والإجراءات السيادية، وتدفق المهاجرين، وكلها تقدم حقيقة معقدة حول الوضع المتغير بشكل يومي.

ببساطة، يحتل شرق المتوسط أهمية بالغة لدى الأطراف المعنية، وتتزايد احتمالية اندلاع مواجهات في المنطقة مع تزايد التوترات الدبلوماسية بين تركيا واليونان، إلى جانب وجود أنظمة دفاع متطورة بشكل متزايد على السفن أو على الشاطئ مما يزيد من مخاطر سوء التفاهم أثناء المناورات أو التحركات.

المصدر | أناتونيا كوليباسانو - جيوبوليتيكال فيوتشرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الوطن الأزرق حلف الناتو شرق البحر المتوسط التوترات التركية اليونانية قبرص التركية شمال قبرص اكتشافات الغاز تركيا أردوغان

دراسة إسرائيلية: البحرية التركية الأقوى في شرق المتوسط

أردوغان يعلن إضافة سفينة رابعة لأسطول التنقيب التركي