استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

عالم تيتانيك ومصير البشرية

الأربعاء 5 يوليو 2023 01:46 م

عالم تيتانيك ومصير البشرية

أصبح العالَم كله في شكل باخرة تايتانيك كبرى بدرجاتها الثلاث المتفاوتة، ولا يمكن لأي من الركاب النجاةَ منفرداً بنفسه.

غواصة تايتان تغطي على نمطين آخرين: قوارب الهجرة غير الشرعية التي تموج بها البحار هرباً من الفقر والحروب، وباخرة البشرية الكونية المهددة بالغرق.

في غواصة تايتان نلمس سمات مجتمع الوفرة الصناعية وافتتان بالاستعراض العدمي وذوق استهلاكي رفاهي وثقة عمياء بالتقنية وطغيان للصورة والإعلام التواصلي.

في قوارب الموت جانب أساسي من طبيعة الحركة الانتقالية البشرية الحالية حيث نشاهد ملايين اللاجئين الفارين من الفتن والجوع إلى قلاع الغرب المحصنة بالأسوار التقنية والقانونية المنيعة.

تيدو البشرية كلها اليوم في سفينة كبرى ضائعة بلا وجهةَ لا ينتبه ركابُها المهووسون بالقوة والمال لمخاطر محدقة تهدد مستقبلهم ووجودهم، ولا يحسون بآلام ومآسي جوارهم المنكوب.

* * *

كانت حادثة غرق الغواصة «تايتان» في قاع المحيط الأطلسي على مقربة من حطام سفينة «تايتانيك» الشهيرة، من أهم الأخبار التي هزت العالم مؤخراً.

وقد أعادت هذه الحادثةُ المؤلمةُ إلى الأذهان قصةَ الباخرة تايتانيك التي اختفت تحت جبال الجليد في أبريل عام 1912، وهي في رحلتها الأولى بين بريطانيا عاصمة العصر الصناعي والعالم الجديد (أميركا).

وكنتُ كغيري قد شاهدت عام 1998 فيلمَ «تايتانيك» الذي أخرجه جيمس كامرون بعد سنوات من اكتشاف حطام السفينة الأسطورية. في هذا الفيلم استعادةٌ لأجواء عالم الثورة الصناعية التقنية وما أفضى إليه من صراع بين الطبقة البورجوازية الصاعدة والطبقات المستغَلة الهشة. كما أن الفيلم عكس مناخَ الافتتان بالتكنولوجيا الحديثة وما واكبها من آمال وتطلعات واسعة في رقي البشرية وتطورها وسيطرتها على الطبيعة.

وكما هو معروف ذهب ضحية غرق السفينة قرابة 1500 قتيل، أغلبهم من ركاب الدرجتين الثانية والثالثة الذين لم تتوافر لهم قوارب النجاة، وأصبحت هذه الحادثة المشؤومة رمزاً لمخاطر وسلبيات التقدم العلمي والتقني، وانحسار مُثُل التنوير والليبرالية الإنسانية.

وقعت الحادثة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أدخلت المعمورةَ في مأساة كونية قاتمة، فانتشرت أفكارُ التشاؤم واليأس في الفلسفات والآداب، وهيمن شعور غرق البشرية في محيط لا قاع له.

وفي السنوات الماضية الأخيرة التي عرفتْ قيامَ الثورة التقنية الصناعية الجديدة، تجدد الإحساس بقدرة العلم والتكنولوجيا على تغيير الوضع البشري وتحقيق أمل الإنسان في التفوق والسيطرة والانتصار على المرض والعجز والموت.

وما لمسناه من خبر غرق الغواصة «تايتان» هو انقشاع لهذا الوهم الطوباوي مجدداً بفشل زواج المال والتكنولوجيا في بلوغ الهدف الذي عجزت عن تحقيقه النخبةُ الأوروبية في بداية القرن العشرين.

وعقب الحادثة الأخيرة، كتب المفكر الفرنسي جاك أتالي أن غواصة تايتان تغطي على نمطين آخرين من الغوص في البحر: قوارب الهجرة غير الشرعية التي تموج بها المحيطات هرباً من الفقر والحروب، والباخرة البشرية الكونية المهددة بالضياع والغرق.

في غواصة تايتان، نلمس سمات مجتمع الوفرة الصناعية، من افتتان بالاستعراض العدمي، وذوق استهلاكي رفاهي، وثقة عمياء في الماكينة التقنية، وطغيان للصورة والإعلام التواصلي.

وفي قوارب الموت، نلمس جانباً أساسياً من طبيعة الحركة الانتقالية البشرية الحالية، حيث نشاهد ملايين اللاجئين الفارين من الفتن والجوع إلى قلاع الغرب المحصنة بالأسوار التقنية والقانونية المنيعة.

أما البشرية كلها فتبدو اليوم في سفينة كبرى ضائعة، لا وجهةَ لها، لا ينتبه ركابُها المهووسون بالقوة والمال إلى المخاطر المحدقة التي تهدد مستقبلهم ووجودهم، ولا يحسون بآلام ومآسي جوارهم المنكوب.

ما يبيِّنه أتالي في مقاله من خلال نظرية «القوارب الثلاث» هو انحسار معادلة التقدم العلمي والسيولة البشرية السريعة المتولدة عنه، أي قدرة التقنيات الحديثة منذ العصر الفيزيائي في القرن السابع عشر على تسريع وتيرة انتقال البشر التي تمتد إلى مواردهم المادية والثقافية والرمزية.

ووفق هذه الديناميكية، أصبحت صورة السفينة المتنقلة رمزاً لحراك بشري واقتصادي ومالي متسارع، وصل ذروتَه مع حركية العولمة الراهنة التي اعتبر أتالي أنها أعادت العالمَ إلى حقبة البداوة الجديدة.

الانتقال الحر هو المحدد الرئيسي للمنظومة الليبرالية في مقوماتها الاقتصادية والقانونية والسياسية، حيث إن الفكر الإنساني تحول من رمزية المدينة المسورة الثابتة التي كانت نموذج الفلسفة الكلاسيكية، إلى رمزية الباخرة العابرة للبحار بما نلمسه لدى جيل كامل من الفلاسفة، من لايبنتز إلى جان بول سارتر.

ومع أن النظم القانونية والسياسية الحديثة كرَّست فكرةَ المواطنة في حدود الدولة القومية ذات المجال الجغرافي السيادي الثابت، فإنها بنت معايير الفعل السياسي والاجتماعي على مقولة التقدم، أي أفق التحول التاريخي والانتقال النوعي للجنس البشري.

ومن هنا المفارقة العصية التي عانت منها العصور الحديثة: التثبيت القانوني للانتماء على أساس ثوابت الجغرافيا، في الوقت الذي يشكل التحول نطاق المعنى واتجاه الفعل.

وها هي هذه المفارقة تؤدي حالياً إلى بناء الأسوار والجدران لمنع حركة الهجرة واللجوء، في حين أن حركية العولمة تقتضي تحرير التنقل وهدم الحواجز والقيود.

وهكذا نجمت عن هذه المفارقة أوضاعٌ قانونية ملتبسة وإشكالية: عديم المواطَنة الذي لا ينتمي لدولة أو كيان سياسي، اللاجئ المؤقت فاقد الحماية، المهاجر غير الشرعي القافز فوق الأسوار والمختفي في الكهوف المسدودة.. إلخ.

وكما يقول أتالي فقد أصبح العالَم كله في شكل باخرة تايتانيك كبرى بدرجاتها الثلاث المتفاوتة، ولا يمكن لأي من الركاب النجاةَ منفرداً بنفسه.

*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني

المصدر | الاتحاد

  كلمات مفتاحية

تايتانيك غواصة تايتان قوارب الهجرة جاك أتالي نظرية "القوارب الثلاثة" باخرة البشرية الكونية مجتمع الوفرة الصناعية