حاكم مصرف لبنان المتهم بالفساد يترك الاقتصاد في حالة يرثى لها.. كيف؟

السبت 22 يوليو 2023 01:16 م

يستعد حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة للتنحي عن منصبه بعد 30 عاما، لكنه يغادر تاركا وراءه اقتصادا في حالة انهيار، وبلدا يعيش إحدى أسوأ الأزمات المالية في العالم.

في البداية، كان من الصعب تحديد ما بداخل الزجاجة التي كان يحملها "عمر عوا" في الفيديو الشهير المنتشر، لكن موقفه بات واضحا وضوح الشمس.

إنها عملية سطو على البنك الذي يضع فيه أمواله، باستخدام مواد حمضية مصنوعة منزليا لتهديد الموظفين لكي يسلمونه أمواله.

قال لي: "لقد سكبتُ بعض القطرات على آلة حاسبة وعلى الأرض لأظهر أن الحمض حقيقي، حيث ظهرت فقاعات وغليان".

لكن عمر لم يكن موجودا لسرقة أموال الآخرين، بل كان يريد فقط استرداد أمواله.

يقول في الفيديو: "لا أريد سوى حقي! لا أريد أن أؤذي أحدا!"

وكانت مدخرات عمر محجوزة في البنك، وهي الآن لا تساوي سوى جزءا بسيطا من قيمتها الحقيقية، والأمر نفسه للمودعين في جميع أنحاء لبنان.

ومنذ أن بدأت الأزمة المالية هنا، كانت قدرة الناس على تحصيل أموالهم محدودة للغاية. وإذا أرادوا السحب بالدولار الأمريكي، فهو بسعر صرف ضئيل لدرجة أن لا قيمة له تقريبا.

وتقلصت مدخرات عمر التي كسبها على مدار حياته العملية، لدرجة أنه فقد أكثر من 80% من مدخراته طوال حياته.

وبعد عملية السطو، خرج منتصرا ومعه 6500 دولار هي كل ما تبقى من أمواله.

سوف يستخدمها عمر لدفع تكاليف جراحة ضرورية لرقبته، يقول الأطباء إنه بدونها قد يُصاب بالشلل.

هذا الموقف يكشف عن الوضع المزري لملايين اللبنانيين الذين فقدوا القدرة على تحصيل أموالهم.

لكن تزايد عمليات السطو على البنوك يمثل مشكلة كبيرة أيضا؛ فعلى الرغم من أن مصطلح "السطو" لا يعكس بدقة ما يحاول المودعون القيام به، لأنهم يحاولون ببساطة الحصول على أموالهم الخاصة، إلا أن التهديدات بالقوة مرعبة لموظفي البنك الذين لا يتحملون سوى القليل من المسؤولية عن هذه المشكلات واسعة النطاق.

سألتُ عمر مباشرة: "هل فكرت في تأثير ذلك عليهم؟"، فأجاب: "إنهم مثل أشقائي وسأعتذر لهم الآن، فأنا لم أقصد أبدا إيذاء أي منهم. لكنني أتمنى أيضا أن يتفهموا وضعي ومن أين أتيت".

إذا، ما علاقة هذا بمأزق عمر برياض سلامة، أحد حكام البنوك المركزية الأطول خدمة في العالم؟.

فإلى جانب الطبقة السياسية في لبنان، وُجِّه اللوم إلى سلامة لسوء الإدارة المالية الذي تسبب في العديد من هذه المشكلات.

وخلال الفترة التي قضاها في رئاسة مصرف لبنان، اتُهم سلامة بإدارة عملية احتيال ضخمة، باقتراض أموال جديدة للدفع للدائنين الحاليين، إلى أن بدأ الاقتصاد في الانهيار.

وعندما جلسنا في البنك لإجراء مقابلة نادرة، كان سلامة مصرا على التنصل من المسؤولية عن مشكلات لبنان المالية.

وقال: "محافظ البنك المركزي ليس شخصا مستقلا؛ فهناك مجلس مركزي يتخذ القرار، والمحافظ ما هو إلا منفذ لتلك القرارات. لذا من التضليل أن يُلقى كل شيء على عاتق المحافظ".

وأضاف: "في جميع البنوك المركزية في هذا العالم، لا يوجد فرد مسؤول عن كل شيء".

إن الحقيقة أصعب من أن تتخيلها؛ فلبنان في حالة مالية مزرية، بعد أن فقدت عملة البلاد 98% من قيمتها، وصارت نسبة التضخم مكونة من 3 أرقام.

ويشير صندوق النقد الدولي، إلى أن إجمالي الناتج المحلي قد تقلص بنسبة 40%، مع استنزاف احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية بنحو الثلثين.

وبينما يستعد سلامة للتنحي عن منصب محافظ البنك المركزي بعد 30 عاما، يُجرى التحقيق معه من قبل سبع دول على الأقل، منها لبنان، بتهمة الاختلاس والإثراء غير المشروع. فهو متهم بغسيل أموال تقدر بأكثر من 300 مليون دولار (229 مليون جنيه إسترليني)، لكنه ينفي فعل ذلك.

وأوضح قائلا: "لقد قدمت بيانات دقيقة لحساباتي الشخصية، توضح أن ثروتي كلها من عملي الشخصي لمدة 20 عاما في القطاع الخاص".

وأضاف: "أظهرت الحسابات المدققة للبنك المركزي أنه ما مِن أموال نُقِلت في أي وقت من البنك المركزي إلى حسابي الشخصي".

لكن الاتهامات الموجهة إليه كبيرة ومتنوعة. ففي ألمانيا وفرنسا، صودرت ممتلكات سلامة وصدرت مذكرات توقيف بحقه.

كما تحقق السلطات في سويسرا بشأن حقيقة استيلائه هو وشقيقه رجاء على مئات الملايين من الدولارات من البنك المركزي بشكل غير قانوني على مدار عقد من الزمان.

ونفا كلا الأخوين ارتكاب أية مخالفة، لكن هناك تحقيقات جارية في لوكسمبورغ وموناكو وبلجيكا.

وفي المملكة المتحدة، حيث يمتلك سلامة أصولا ضخمة، لم يعلق أي من مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة أو الوكالة الوطنية المعنية بمكافحة الجريمة، على الرغم من أن المصادر تقول إن ممتلكاته قيد النظر.

وتُجري المنظمة السويسرية غير الحكومية للمساءلة "أكاونتابيليتي ناو"، تحقيقا حول رياض سلامة لسنوات عدة، وقدمت شكاوى جنائية في بلدان عدة.

وتقول زينة وكيم رئيسة مجلس إدارة المنظمة، إن الادعاء العام في أوروبا يشتبه في انتماء سلامة إلى منظمة إجرامية.

وتضيف: "من المهم للغاية أن يتهم الادعاء العام في أوروبا محافظ البنك المركزي بالانتماء إلى منظمة إجرامية. إنها سابقة".

وتساءلت وكيم: "أين انتهى الأمر بالمساعدات الدولية التي كانت مخصصة للمحتاجين في لبنان؟".

وتقول منظمة اليونيسف التابعة للأمم المتحدة، إن نحو 9 من كل 10 أسر لا تستطيع الآن شراء الضروريات الأساسية. وهناك مشكلات مستمرة مع نقص الكهرباء والأدوية والوقود والغذاء.

وتقول: "على مدى السنوات الخمس الماضية، تدفقت 5 مليارات دولار من المساعدات الدولية إلى لبنان، وأكثر من ذلك بعد الانفجار الكبير في مرفأ بيروت. لا نعلم أين ذهبت تلك الأموال. لقد كانت مخصصة للسكان. والفساد هو السبب الأساسي لكل ما حدث في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية".

سألتُ رياض سلامة عما إذا كان سيخضع لمزيد من الاستجواب من قبل السلطات في فرنسا، فقد أدى عدم حضوره إلى إصدار مذكرة توقيف دولية بحقه.

لكنه أرجع هذا، كما يقول، إلى مشكلة في التواصل؛ لأن محاميه لم يتم إخطاره بشكل صحيح.

عُدتُ وسألته لماذا لم يحاول الذهاب إلى فرنسا في أقرب وقت ممكن للخضوع للاستجواب وتبرئة اسمه عندما علم أنهم يريدون استجوابه؟ لكن محاولاتي المتكررة لاستيضاح هذه النقطة لم تلق قبولا.

وكان رده الأخير: "المحامي الخاص بي أخبر القاضي كتابةً أنني أريد الذهاب إلى فرنسا. وقال له من فضلك أعطنا موعدا كي نأتي".

وقال إنه سيطير إلى باريس للخضوع للاستجواب في أغسطس/آب، بمجرد انتهاء فترة منصبه كحاكم لمصرف لبنان. لكن يبقى أن نرى حدوث ذلك على أرض الواقع.

وخارج مبنى البنك المركزي، لا تترك الكتابة على الجدران لدى المارة أدنى شك بشأن الغضب العام المتأجج تجاه البنوك ومن يديرونها.

كانت هناك محاولات للتغطية على الكلام المكتوب على تلك الجدران، لكن لا يزال من الممكن قراءة بعض البذاءات.

وهناك شيء واحد مؤكد، وهو أن خروج رياض سلامة من المنصب الأعلى في البنك المركزي لن يكون نهاية للأزمة الاقتصادية في لبنان. فمع عدم تسمية من سيتولى المنصب بعده، وعدم وجود حلول حقيقية تلوح في الأفق، فإن الغضب الشعبي تجاه البنوك في لبنان سيستمر في الازدياد.

المصدر | بي بي سي

  كلمات مفتاحية

لبنان حاكم مصرف لبنان مصرف لبنان رياض سلامة

حاكم مصرف لبنان: سأغادر منصبي نهاية يوليو

لبنان.. فشل اختيار حاكم للمصرف المركزي مع انتهاء ولاية سلامة