استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

تأملات في لغة خطاب الرئيس المصري

الخميس 17 مارس 2016 09:03 ص

منذ عقود طويلة، كان الممثل المسرحيّ يرتبك في غياب الملقِّن، إذ عليه ألا يخرج عن النصّ. ينتظر أن يسمع منه الكلمة الأولى مِن الجملة أو العبارة التي يجب أن يُدلي بها مثلما كتبها المؤلف، من دون زيادة أو نقصان، فإذا غمَّت عليه وانسدت أذناه، سعى إلى سدّ الثغرة بكل الوسائل الممكنة.

بمرور الوقت، لم يعُد الالتزامُ بالنصّ أمرًا مُهمًا ولا مَطلوبًا. ظهر ممثلون يعيدون صياغة الحوار فيضيفون إليه أو يحذفون منه، بل وربما يبتكرون مشاهد جديدة يتفاجأ بها الجمهور، حتى اندثر المُلقّن مِن الوجود تقريبًا. صار الالتزامُ استثناءً والارتجالُ قاعدةً والخروجُ على النصّ مهارةً ومَفخرةً. كذلك غدا الأمر بالنسبة للخطباء السياسيين. قليلُهم يستعيض عن المُلقن بأوراقٍ أو شاشاتٍ يقرأ منها، وكثيرهم يُستغنى عنها مُفضِّلاً أن يُطلِقَ لقريحته العنان.

لا شك في أن الخروج عن النصّ أمرٌ محمودٌ إذا كان المُمَثل أو الخطيب مُتمكنًا مِن أدواته، ذميمٌ إذا لم يمتلك صاحبه ناصيةَ اللغة وحضورَ البديهة وقوةَ البيان، إضافة إلى جاذبيةَ الإلقاءِ وبريقه.

ثمّة أزماتٌ قد يخلقها الخروج على النصّ، أحيانًا ما تتطوّر وتتفاقم بما يجعل تداركَها مستحيلاً. منذ سنوات عِدة تألّق النجمُ المصريّ سعيد صالح في إحدى مسرحياته وخرج عن المكتوب، وكان أن أدّى به خروجه هذا إلى السجن وإن بطريق غير مباشرة. اشتهر صالح بإسقاطاته السياسية الحارقة، ويُذكر أنه ألقى عبارةً حازت شهرة واسعة وربما كانت سببًا رئيسًا للتنكيل به.

قال سعيد صالح في مشهد ساخر: «أمي اتجوزت ثلاث مرات؛ الأول أكلنا المِشّ، والتانى علمنا الغِشّ، والتالت لا بيهش ولا بينش».

لم تكن تلك العبارة جزءًا مِن النصّ المسرحيّ، وبرغم أن سعيد صالح لم يُسَمِ أشخاصًا بعينهم، فلم يخفِ على مشاهديه أنه عنى الرؤساء الثلاثة الذين حكموا مصر تِباعًا؛ جمال عبد الناصر وأنور السادات، ثم حسني مبُارك. أُلقي القبض على سعيد صالح في مَطلع التسعينيات مِن منزله، ووُجِّهَت إليه تهمة تعاطي الحشيش، ونال عليها عقوبة مُقيدة للحرية ثم خرج، ولم يكن سجنه في عُرف الكثيرين سوى جزاء تجاوزه وارتجاله اللاذع.

بدوره درج الرئيس المصريّ الحالي على الخروج عن النصّ الافتراضيّ الذي يتوقعه مستمعوه خطبة بعد الأخرى، بحيث لم يعد خروجه استثناءً، ومثلما أضحك صالح الملايين، أضحك الرئيس عبد الفتاح السيسي ملايين أخرى ربما أكثر عددًا، خاصة في خطبته بشأن التنمية والمستقبل في العام 2030، تلك الخطبة التي عبرت الحدود وأثارت موجات من الدهشة والهرج، وأُفرِدت لها صفحاتٌ ومساحاتٌ للتعليق، ونشرت على خلفيتها عشرات المقالات.

بعيدًا عن السخرية والقهقهات ومشاعر الاستياء، وبعيدًا أيضًا عن صلصلة الأكُفِّ الملتهبة بالتصفيق، يمكننا أن نتلمّس بعض خصائص الخطاب الرئاسيّ البارزة التي توالى ظهورها على مدار عام ونصف العام، واتسمت بالثبات والتكرار برغم الارتجال شِبه الدائم وغياب النصّ المكتوب. يُمكن أيضًا اتخاذ الخُطبة الأخيرة التي ألقاها الرئيس في الرابع والعشرين مِن شباط لهذا العام كنموذجٍ دالٍ ووافٍ، إذ حفلت بغالبية الخصائص المميّزة لخطابه بوجه عام.

دأب الرئيس في ارتجاله على استمالة الجماهير عبر دغدغة مشاعرها الوطنية، لكن مِصرَ ارتدت في عباراته مرة تلو الأخرى ثوبًا مُهلهلاً مليئًا بالثقوب، وكان على المواطنين أن يقوموا برتقه مِن خلال تبرّعاتهم المادية المباشرة أو مثلما في الخطبة الأخيرة مِن خلال الاتصال بأرقام مُختصَرة، تتحوّل فيها مكالماتهم إلى جنيهات يتلقفها المسؤولون دعمًا للاقتصاد، الأمر الذي بدا وقد خرج خروجًا مبينًا؛ لا عن النصّ فقط، بل وعن طموحات وآمال الكثيرين.

فبدلاً مِن أن يُشعرهم الخطاب بتحمُّل النظام الحاكم المسؤولية وبأهليته لها، نقل إليهم إيحاءً عميقًا بالعجز والضعف. ظهر الوطن لا قويًا شامخًا بل مُعتلاً متسوّلاً، وهو الأمر الذي لقي امتعاضَ قطاعٍ واسعٍ مِن المتلقين.

كما دأب الرئيس مِن خلال خُطبه المتتالية على تزكية فكرة المؤامرة الدولية القائمة، التي تمسّ أمنَ الوطن، وهي فكرة افتقرت إلى الحُجة القوية الراسخة، ولم تجد لها سندًا صلبًا على أرض الواقع. ويُلاحَظ أنه استخدم في منطوق عباراته وفي أكثر مِن مناسبة تعبير «أهل الشر»، ربما للتدليل على المتآمرين دون أن يسمّي أحدهم. 

هذا التعبير الغائم أفقد الخطاب بعضًا مِن مصداقيته، فبدا مهتزًا قابلاً للتشكيك، خاصة والدول والبلدان العربية التي درجت وسائل الإعلام على تسميتها صراحةً ومهاجمتها باعتبارها متآمرة، لم تعُد كذلك في خطابات مؤسسة الحكم وتصرفاتها خلال الآونة الأخيرة.

أما الجماعات الدينية التي ربما كانت مقصودة بتعبير «أهل الشر»، فإن قسمًا لا بأس به مِن الجمهور صار يدرك جيدًا أنها أضعف مِن الصورة التي تُرسَم لها، وأن قدراتها التي يجري تضخيمها هي في حقيقة الأمر متواضعة، وأن غالبية قياداتها المؤثرة باتت تقيم في السجون.

وأما عن الدول والبلدان الأجنبية التي قد تدخل في إطار «أهل الشر»، فلا يفتأ خطاب السلطة ذاته يسبغ عليها قيمًا إيجابية، ويُلاحَظ على سبيل المثال أن الخطاب الإعلامي المصري لا ينفكّ يُشيطِنُ الولايات المتحدة، فيما تسعى مؤسسة الحكم إلى خطب وِدّها وإعلان الشراكة معها، والاستفادة منها على مستويات متعددة.

ظهر تعبير أهل الشر في الخطبة الأخيرة، ولم يكن استخدامه مقنعاً أيضًا. فقد بدا بمثابة حُجّة ضعيفة، سعى الرئيس عبرها إلى التنصل مِن إعلان معلومات دقيقة حول المشروعات الاقتصادية ومساراتها.

سِمة ثالثة ملحوظة هي اعتماد الخطاب الرئاسيّ على تعبيرات ومفردات يصعب قبولها في إطار ما لمؤسسة الحُكم مِن هيبة ومكانة واعتبار. يمكن النظر إلى بعض التعبيرات المستخدمة في خطبته الأخيرة مثل: «صبح على مصر بجنيه»، و«أنا لو أتباع أتباع» كي يلمس المرء بوضوح ما يعتري الخطاب مِن فجاجة تتجاوز في كثير الأحيان توصيف الشعبوية.

كان مِن الممكن بالطبع أن يستخدم الرئيس تعبيرات ومفردات أخرى أكثر أناقة ورصانة من دون أن يُخِلَّ بالمعنى. فمسألة التضحية بالذات فداءَ لوطن فكرة شديدة القبول والتثمين، تجد صداها لدى غالبية البشر مِن كل حَدبٍ وصَوب.

لكن الأزمة وقعت في اختيار الألفاظ، فكان أن تحوّل الأمر مِن قيمة إيجابية إلى أخرى سلبية، ولا يفوت على سامع أو قارئ، ما لمفهوم «بيع» النفس مِن دلالات في الثقافة الشعبية وانعكاسات، قد تستجلب الحَرَج بدلاً مِن استدعاء الفخر.

يلفت النظر ما وضعه الجاحظ منذ قرون في وصفه للخطيب النموذجي. فقد أشار إلى ضرورة تخيّر الألفاظ، وتقسيم الكلام بحسب طبقات المستمعين، ومراعاة المقام، ونوّه بما لرباطة الجأش مِن أهمية، وهي نقاط بدت بعيدة عن انتباه الرئيس. ويُلاحَظ أن ثمَّة خصائص وسمات متعدّدة يمكن اقتفاء أثرها في الخطاب لكن المساحة تضيق، إذ تحتاج عملية التحليل المتأنية إلى أضعاف الكلمات.

يمكن القول إجمالاً إن الخطاب الرئاسيّ يفتقرُ إلى قوة الإقناع وتماسك الحُجة، وإن ظلّ قادرًا على التأثير في فئة مِن المتلقين. هذه الفئة لا يمكن جمعُ أعضائها في سلّة واحدة، فقد يكون مِنهم مَن لا يزال يؤمن فِعليًا بقدرة الطرح المُقدم في الخطاب على تحقيق الشعارات المرفوعة خلال الحِراك الثوريّ العام 2011 (عيش، حرية، عدالة اجتماعية).

وربما يكون مِنهم أيضًا مَن اكتشف انحراف الخطاب عن المسار المأمول، لكنه لا يزال في مرحلة الإنكار. فصعوبة الاعتراف بالخذلان إضافة إلى الرغبة العميقة في تأكيد سلامة الاختيار، تشكلان حائطَ صدّ نفسيّ يمنع صاحبه عن الإقرار بالإخفاق.

هناك أيضًا من يتصنعون التأثر بالخطاب. هؤلاء هم المستفيدون مِن الأوضاع القائمة، ويبدو مِن ردود الأفعال السلبية المتصاعدة أن نسبتهم تتراجع شيئاً فشيئاً، إذ يخلق النظام أعداءً جديدين يومًا بعد يوم عبر انتهاجه سياسات قامعة واستحداث أخرى مجحفة.

هناك أيضًا مَن اكتشف عمق الأزمة وضحالة الرؤية التي تتبنّاها مؤسسة الحكم، لكنه يعاني هذه اللحظة إنهاكًا شديدًا سببته السنوات الخمس الفائتة، بكل ما حَمَلَت مِن تقلبات وعدم استقرار، وقد خلفته عاجزًا عن التحرّك؛ يتداول الخطاب ويتلمز ويسخّر، لكنه لا يقوى على تنظيم معارضة حقيقية.

وبعد،

حين استطاب المؤدّون والممثلون المسرحيون مسألة الخروج على النصّ، لم يكن خيارهم إلا نتيجة منطقية لدوافعٍ وأسباب، مِن بينها الرغبة الإنسانية الأصيلة التي يستعصي تجاهلها في تحطيم القيود أيًا كانت؛ قيود المؤلف، قيود المخرج، وقيود التلقين التي تُحجِّمُ الابتكار وليد اللحظة والانفعال. يُضاف إلى هذا وذاك السعي المشروع نحو اجتذاب الجماهير وتحقيق الشعبية ورفع إيرادات العمل الفنيّ. 

لا يمكن القول بأن ارتجال الرئيس المصري قد حقق الأهداف نفسها، أو اقترب به مِن تحقيقها، وهو ما بلورته ردود الأفعال على الخطبة الأخيرة بوضوح.

صحيحٌ أن الجماهير ضحكت وتكالبت على المشاهدة والاستماع، لكنها قد تنفَضُّ عن العرضِ قريبًا إذا واصل الخطيبُ الحديثَ على المنوال ذاته.

* د. بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة وروائية وناشطة حقوقية وفنانة تشكيلية. 

المصدر | السفير

  كلمات مفتاحية

مصر السيسي العسكر الانقلاب الفساد حكم العسكر الكاريزما الرئيس المصري

خطاب «السيسي» في "رؤية مصر": انكشاف الفشل العام

الاحتفاء الإسرائيلي بـ«نخبة» السيسي

على «السيسي» أن يرحل قبل فوات الأوان

فشل «السيسي» وحديث المؤامرة

نظام السيسي في حالة إنكار

محكمة مصرية تفرج عن 10 قيادات معارضة والنيابة تستأنف

عن أزمة النخبة في مصر

جنون السطوة الأمنية

أهل الشر..!

شبه رئيس لـ«شبه دولة»!