منذ أسابيع، دعا نائب رئيس الكنيست الصهيوني، «موشيه فيجلين» إلى اقتحام المسجد الأقصى، بمناسبة عيد العُرش اليهودي. وفعلاً، في اليوم التالي اقتحم ومعه مجموعة تقدر بـ١٥٠ شخصاً المسجد، تحت حراسة مشددة، حفاةً بلا حذاء، وأقاموا صلواتهم التلمودية احتفاءً بهذا العيد. وهذه الأحداث حدثت في سياق استباحت فيها القوات الإسرائيلية المسجد وضربت كبار السن وحاصرت المعتكفين داخل المسجد القبلي، ثم مُنع من هم دون الخمسين عاماً من صلاة الجمعة، وحتى كتابة هذه الكلمات ما زالت الاشتباكات تتصاعد بين المرابطين وبين الشرطة والمقتحمين.
وحتى نستطيع فهم ومعرفة كيفية التصدي لهذه الاقتحامات والاعتداءات على المسجد الأقصى، والتي بدأت تتزايد وتتعاظم في السنوات الأخيرة، لا بد من تأطيرها بشكل دقيق.
«الحرم القدسي الشريف بأيدينا»، هكذا قال، وبلغة لا تخلو من الزهو، رئيس الأركان الإسرائيلية مردخاي جور بعد أن اقتحم الصهاينة باب الأسباط وتوجهوا نحو حائط البراق في حرب النكسة من عام 1967.
قبل هذه الحرب، كان الحرم القدسي الشريف، كونه يقع شرق خط الهدنة المرسوم بعد حرب عام 1948، تحت الإدارة الأردنية. ولكن مع النكسة، سيطر الكيان الصهيوني على الضفة الغربية كاملة، ومن بينها القدس الشرقية التي ضُمَّت إلى «الغربية».
هذا الحدث سياسي في المقام الأول، إنه حدث تمدد الاحتلال الصهيوني لأراض عربية جديدة: طرد أهلها، وإخضاع المتبقين منهم، وتدمير تراثها وتاريخها (أي تهويدها)... والحرم القدسي بهذا المعنى لا يختلف كثيراً عن أي أرض فلسطينية أخرى، احتلها الكيان الصهيوني.
لكن لأنه الحرم القدسي، أُوْلى القبلتين، اكتسى هذا الفعل بُعداً دينياً، وهذا البُعد الديني مضاعف؛ لأن المكان المبني عليه الحرم المقدسي يحظى برمزية دينية عند اليهود، فهم يعتقدون بأنه مكان الهيكل.
فبعد استيلاء الصهاينة عليه، أصدر مجلس الحاخامات الرئيسي -وهو جهة قانونية تنظم الشؤون الدينية اليهودية في الكيان الصهيوني- في السابع من حزيران (يونيو) من عام 1967فتوى بمنع اليهود من الدخول إلى الحرم الشريف. بعد هذه الفتوى بعشر أيام، أصدر الحاخام أوڤاديا يوسف فتوى لا يحرم فيه فقط دخول الحرم، بل حتى المرور من فوقه بالطائرة. وبعده بشهر، أصدر مجلس الحاخامات أمراً بمنع أي نقاش حول إعادة بناء الهيكل. وفي أيلول (سبتمبر) من تلك السنة، أعلن المجلس أن من يدخل الحرم يعتبر كافراً.
ليس الهدف من المبالغة في المنع والتحريم هنا، هو احترام مشاعر المسلمين، أو الحرص على السلم الأهلي، بل مرتبط بإحدى الهلاخات (وهي بالعبرية تعني التشريعات الدينية) الموجودة في كتبهم المقدسة، والتي تمنعهم من دخول الحرم بعد دمار الهيكل، حتى عودة المسيح الذي سيعمره لهم.
بعد ذلك بعقدين، في عام 1986، اجتمعت مجموعة من الأصوليين الأرثوذكس باسم «إلى جبل الربّ» وحاولت حشد مجموعة من الحاخامات؛ لتغيير هذا الوضع القائم، فأصدرت فتاوى تبيح الدخول إلى أماكن معينة داخل الحرم الشريف، بل وبناء كنيس يهودي داخله.
منذ هذه اللحظة، بدأت فكرة اقتحام الحرم تتوسع وتجد زخماً بين جماعات من اليهود -كجماعة أمناء الهيكل-، ولعل أولى وأهم محطاتها مذبحة عام 1990 عندما اقتحم المسجد أحد الصهاينة، لوضع حجر أساس هيكلهم.
إن هذه الاقتحامات تكشف من جهة تعاظم هذا النوع من الجماعات الدينية الصهيونية وصعود نفوذها، وسعيها الدائم نحو استكمال المشروع الصهيوني بتهويد كل شيء حتى دُور العبادة. وكيف أنها على استعداد دوماً لتحدي سلطات الاحتلال والمؤسسات الدينية التابعة له لتحقيق مشاريعها.
وهي من جهة أخرى، تفضح أسطورة السعي الإسرائيلي نحو السلام. يشير إلى ذلك آخر الاستطلاعات التي أجراها مركز القدس للشؤون العامة والدولة أوضح فيه أن الغالبية العظمى من الإسرائيليين ما زالوا يرفضون فكرة الدولة الفلسطينية.
إن هذه الاقتحامات تحدث ضمن سعي دؤوب من حكومة نتانياهو؛ لإقرار ما يعرف بـ«مقترح التقسيم الزماني والمكاني للأقصى»، والذي يسعى لإقرار صلوات خاصة لليهود في أوقات وأماكن محددة. وقد تقدمت مؤسسة الأقصى للوقف والتراث بتحذير من تنفيذ هذا المخطط -لاسيما بعد مطالبة وزارة الأديان بذلك-، وناشدت العالم العربي والإسلامي لتحمل مسؤوليته.
وهذه المناشدة الأخيرة هي التي تخطر على فكر أي عربي ومسلم يسمع بهذه الأخبار. فالسؤال الأول الذي يخطر على باله هو: ماذا ستفعل الدول العربية إزاء هذا الموضوع؟ أتكتفي بالإدانة والشجب أم أن هذه الأخيرة باتت عزيزة؟
إن اليأس من أن تتبنى الحكومات العربية برنامجاً وسياسة واضحة اتجاه الظلم الذي يتعرض له إخوتنا في فلسطين لهو الوقود والجذر الأساسي؛ لاستمداد أي حركة مسلحة خارجة عن الدولة لشرعيتها، بأنها هي من ستعوض هذا اليأس.
لا تتركوا القدس.. لا تتركوا فلسطين.. لا تتركونا لليأس.
* سلطان العامر كاتب سعودي.