البحث عن آلية جديدة لتسعير النفط: هل ينتهي زمن «البترودولار»؟

الخميس 24 نوفمبر 2016 08:11 ص

تستمر العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية في الاستحواذ على العناوين الرئيسية في الصحافة العالمية السياسية والمالية. وفي الوقت الذي يتوقع استمرار ذلك في المستقبل القريب، نظرًا لخطاب «ترامب» الحاد في هذا الشأن، فإنّه من غير الواضح إلامَ ستخلص تلك القضية.

ولتقدير الصورة الكاملة خلف هذه القضايا والعلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية، من المهم فهم النظام الذي يعزز هذا الاتصال: «البترودولار».

وفي هذه المقالة، سنستكشف تاريخ العلاقة بين الدولتين وتشكّل نظام البترودولار، ونهدف في النهاية إلى فهم الآثار المترتبة على الاقتصاد العالمي والانخفاض المحتمل في قيمة الدولار الأمريكي.

حرب الغفران والدبلوماسية المكوكية للولايات المتحدة وانتقام أوبك

ترجع أصول تلك العلاقة لحرب الغفران، التي بدأت يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، عندما بدأت الدول العربية (ومنها مصر وسوريا) هجومًا على (إسرائيل) في يوم الغفران، مما تسبب في إعلان (إسرائيل) لتحذير نووي شامل.

وفي محاولة لتخفيف وطأة الصراع، تدخلت الولايات المتحدة كوسيط بين الأطراف عن طريق وزير الخارجية «هنري كيسنجر» بادئًا ما سمي بـ (الدبلوماسية المكوكية)، والتي بدأت يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1973، بغض النظر عن قرار الولايات المتحدة إمداد (إسرائيل) بمعدات وإمدادات الحرب اللازمة.

وفي رد قاس على ذلك، رفعت دول أوبك سعر النفط من 3 دولارات للبرميل إلى 17 دولارا للبرميل. وبالإضافة لذلك، قرر أعضاء أوبك تخفيض الإنتاج بنسبة 25%.

كانت تبعات تلك القرارات كارثية على الولايات المتحدة، ولم تشهد مثيلًا لها منذ الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت ارتفاعًا كبيرًا للتضخم، وكسادا في الإنتاج الصناعي، وهبوطا حادا في أسواق الأسهم، وهي الآثار التي استمرت لسنوات بعد ذلك، حتى وصلت لنهايتها قرب نهاية الثمانينات من القرن الماضي.

صدمة «نيكسون»

عبر اتباع الإجراءات الاقتصادية الشهيرة بـ (صدمة نيكسون)، قررت الولايات المتحدة إلغاء ربط الدولار بالذهب عام 1971. نتيجةً لذلك، شهد الدولار انخفاضًا حادًا في القوة الشرائية بين عامي 1971 و1973.

ومن المثير للاهتمام، توقيت ذلك القرار، فقد حذّر الاقتصادي «ميلتون فريدمان» (الحائز على جائزة نوبل) الرئيس «نيكسون» من أنّ أسعار الذهب ستنهار لتصل إلى 6 دولارات للأوقية إذا مضت الولايات المتحدة قدمًا في قرارها. ولكن في الحقيقة، ارتفعت أسعار الذهب بجنون من 35 دولارا للأوقية عام 1967 إلى أعلى من 135 دولارا للأوقية عام 1973.

وأثر إضعاف القوة الشرائية للدولار كثيرًا على حسابات أعضاء أوبك، وهو ما أعطاهم دوافع إضافية لزيادة أسعار النفط. وبالإضافة لذلك، أصبحت هناك قضية تتمحور حول كيفية تحفيز هذه الدول للتمسك بالأموال بالدولار الأمريكي، بالنظر إلى كونها عملة ورقية تمر بحالة فقد للقيمة.

وبينما كانت الأوضاع تسوء، بدأت الولايات المتحدة في ابتكار مجموعة من السياسات لإنقاذ الأوضاع، بما في ذلك الحل العسكري. فقد كشفت بيانات غير رسمية بنهاية عام 1973 عن سيناريو قد وضعته الولايات المتحدة كانت تعد من خلاله لغزو عسكري للملكة العربية السعودية لتأمين حقول النفط ومنع أي اضطرابات تؤثر على الإمدادات المتوجهة للغرب.

عند هذه النقطة، كانت هناك قضايا عديدة تحتاج للمعالجة، بما في ذلك تحييد البترول لكي لا يصبح سلاحًا اقتصاديًا، والتأثير على قرارات أوبك (التي تمثل السعودية الطرف المسيطر فيها) حتى لا تقوض وتزعزع النظام النقدي العالمي، وتجنب استغلال الاتحاد السوفييتي للعلاقة المتضررة ومحاولة التوسع سياسيًا وفكرياُ وعسكريًا داخل السعودية.

الخيار الدبلوماسي

في مارس/ آذار عام 1973، بدأ الموقف بالتحسن. رفعت دول أوبك حظر النفط، ووجدت الولايات المتحدة الفرصة لإعادة رسم سياسة جديدة للنفط، والتي من الممكن أن تحقق هدف تطبيع العلاقات السياسية وتجنب التوترات المتعلقة بالنفط مستقبليًا.

بدأ الخيار الدبلوماسي يلقى القبول في يوليو/ تموز من العام 1974، وأرسل «كيسينجر» وزير الخزانة المعين حديثًا «ويليام إي سيمون» (الذي أطلق عليه مسمى قيصر الطاقة) ونائبه «جيري بارسكي»، في مهمة سرية إلى السعودية لعقد صفقة.

وشملت الصفقة إقناع السعوديين بتمويل عجز الموازنة الأمريكي من أرباح النفط. وذكرت مصادر غير رسمية أنّ المهمة كانت يائسة ولم يكن الفشل خيارًا مقبولًا لدى الرئيس.

وكانت الصفقة التي عرضها «سيمون» بسيطة: سيوافق السعوديون على ربط سعر النفط بالدولار وإعادة استثمار تلك الدولارات في سندات الخزانة الأمريكية وودائع البترودولار في البنوك الأمريكية.

في المقابل، ستلتزم الولايات المتحدة باتخاذ خطوات لتغيير قيمة الدولار والموافقة على بيع أسلحة للمملكة السعودية. وتلك الأسلحة، وفقًا لبعض المصادر، كانت فائضة عن حاجة الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام، وكانت الولايات المتحدة حريصة على التخلص منها.

وهناك جزء إضافي غير معروف للكثيرين: ستستخدم البنوك الأمريكية ما لديها من البترودولار كقروض للأسواق الناشئة في أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وأفريقيا. وفي المقابل، ستشتري تلك الدول صادرات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. كان الهدف النهائي هو إعادة مسار انطلاق النمو العالمي وزيادة الطلب على النفط. وهكذا تفوز كل الأطراف المشاركة في الحل.

ومع إنجاز تلك الصفقات، طالبت السعودية بشدة شرط عدم الكشف: كان على الولايات المتحدة الحفاظ على الخصوصية فيما يتعلق باستثمارات المملكة. تمت الموافقة على هذا الشرط والمحافظة عليه لمدة 40 عامًا حتى مايو/ أيار عام 2016، عندما كشفت الخزانة الأمريكية أخيرًا عن حجم ما تمتلكه السعودية من سندات الخزانة الأمريكية.

ومع ذلك، من المحتمل أن تكون الأرقام الرسمية في هذا الشأن مضللة، حيث أنّها لم تأت على ذكر سندات الخزانة المملوكة للسعودية التي يقوم عليها وسطاء في جزر كايمان أو أي مراكز صرافة خارجية.

أمور التنفيذ تسبب صداعًا إضافيًا

في الوقت الذي بدأت فيه الصفقة ، كانت هناك العديد من المشاكل المرتبطة بالتنفيذ. السعوديون معروفون بالتأخر في اتخاذ القرار، وفي هذه الحالة يختارون التردد بدلًا من الالتزام المباشر. لقد طلبوا وقتًا لإيجاد الآلية البديلة لتسعير النفط، مثل الذهب كمثال. إضافة إلى ذلك، مع استقالة «كيسينجر» عام 1974 نتيجة لفضيحة ووترجيت، كانت هناك فرصة لأعذار جديدة لهم من أجل التأخير.

وللتغلب على هذا الطريق المسدود، سعت الولايات المتحدة للضغط على السعودية بمناقشة مفتوحة حول خيار عسكري باحتلال السعودية. وفي يناير/ كانون الثاني من عام 1975، نشرت مجلت كومنتاري واحدًا من أشهر المقالات في التاريخ عن السياسة الخارجية الأمريكية.

كتبت المقال بقلم «روبرت دابليو توكر»، رئيس معهد السياسة الخارجية الأمريكية وعضو الدائرة الداخلية للبيت الأبيض. جاء العنوان كالتالي: «النفط: قضية التدخل الأمريكي»، وجاء بالمقال إشارات صريحة للسيناريو العسكري الذي تعمل الولايات المتحدة عليه.

وحققت المقالة الغرض منها وأقنعت السعوديين بتوقيع الصفقة.

حقبة البترودولار

بالرغم من الارتفاعات والانخفاضات، أظهرت كل الإدارات منذ عهد «كارتر» التزامًا بفكرة «الدولار القوى»، ولـ 35 عامًا، منذ 1975 وحتى عام 2010، ظلت صفقة البترودولار فعالة، على الرغم من ارتفاع أسعار النفط وهشاشة الدولار. وكان الدولار قد عزز من دوره كعملة رائدة للاحتياطي النقدي وعملة رائد للاستيراد والتصدير حول العالم.

بحلول عام 2009، أضرّت كارثة اقتصادية جديدة بصفقة البترودولار. وفي سبتمبر/ أيلول من نفس العام، اجتمع زعماء العالم في قمة دول مجموعة العشرين، واقترح «أوباما» فكرة بسيطة لإحداث نمور عالمي: كل كتلة أو منطقة اقتصادية كبيرة ستلتزم بالتحرك بعيدًا عن القطاع التي تعتمد عليه باتجاه مجال يوفر نمو محتمل.

بالنسبة للصين واليابان، تعني تلك الفكرة أن يتحولان للاستهلاك بدلًا من رأس المال المستثمر. وستتحول أوروبا من التصدير إلى الاستثمار، والولايات المتحدة نفسها ستأخذ على نفسها مهمة زيادة الصادرات.

ويعني زيادة الصادرات دون القدرة على مضاعفة العمالة (التي تعد العامل الرئيسي في زيادة الإنتاج من أجل التصدير)، أنّ الخيار الوحيد المتاح هو تخفيض قيمة العملة.

وبحلول يوليو/ تموز عام 2011، بعد 18 شهرًا فقط من الاجتماع، توقف مؤشر الدولار عند 80.48، بانخفاض 8% وقاع تاريخي جديد لم يصل له قبل ذلك. وبدأت حرب العملة المستمرة حتى الآن.

وقد تدهورت العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة بشدة أثناء فترة إدارة «أوباما». وتوجد عدة أسباب لذلك:

أولا: المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران والتي اعترفت فيها الولايات المتحدة بإيران كقوة إقليمية كبيرة وزعيمة للمنطقة.

ثانيا: تحرير الجزء السري للغاية من تحقيقات الكونغرس حول هجمات 11/9 والمكونة من 28 صفحة، والتي تربط أعضاء بالأسرة المالكة في السعودية بالمهاجمين المشاركين في الهجمات. وهدّد السعوديون ببيع سندات الخزانة الأمريكية المملوكة لهم ردًا على الأمر، لكنّهم حتى الآن فشلوا في تنفيذ وعدهم. وانتهي الأمر بسن قانون جاستا المثير للجدل، والذي يعطي أهالي ضحايا الهجمات حق مقاضاة السعودية.

ثالثا: الولايات المتحدة الآن هي مصدرة صافية للطاقة، ومن المفترض أنّها تمتلك أكبر احتياطي من النفط في العالم.

رابعا: تسمح العديد من دول أوبك بإجراء معاملات النفط بعملات أخرى ففي يناير/ كانون الثاني 2016، وافقت الهند وإيران على بيع نفطهم بالروبية الهندية. وفي عام 2014، اتفقت قطر مع الصين ليصبحا المحور الأول للتعامل في صفقات النفط باليوان الصيني، وفي ديسمبر/ كانون الأول عام 2015، اتفقت الإمارات والصين على اتفاقية تحويل جديدة للعملات باليوان الصيني.

ما ذكرناه في الأعلى يعطي مؤشرًا قويًا على أنّ دول الخيج تتخذ تدابير لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي.

هذا يعني كل الظروف التي أدت إلى إبرام اتفاقية البترودولار تقف الآن على الطرف النقيض مما كانت عليه عام 1975. فلم تعد الولايات المتحدة ولا السعودية يملك أي منهما نفوذًا على الآخر.

توجد إمكانية للوصول إلى آلية جديدة لتسعير النفط، وفقط فور تحديدها والإعلان عنها، ستكون إشارة على نهاية الدولار كعملة رائدة ومسيطرة. وسيمهد سعر النفط الطريق وبالتأكيد سيتبعه باقي البضائع والسلع.

فهل سيكون هذا بداية عهدٍ جديد؟

المصدر | سيكينج ألفا

  كلمات مفتاحية

السعودية الولايات المتحدة العلاقات السعودية الأمريكية البترودولار