مفاهيم بديلة لتحليل التوتر السني - الشيعي

الثلاثاء 18 نوفمبر 2014 06:11 ص

تبرز أهمية الدراسة النظرية للاشتباك السني - الشيعي من الوقائع المادية العنيفة والاشتباكات الدموية المستمرة والمتصاعدة في السنوات الأخيرة في المشرق العربي الحديث، الاشتباكات الدموية التي ارتكبت خلالها الجرائم البشعة أثناء ما كان أهل العلم والمسؤولية الشرعية والسياسية يحاولون إما حل الخلاف بتجاهله! أو تصعيده لذروته الدموية لكسب مواقف داخل الوسط المذهبي الخاص.

ونحن هنا لا نحاول أن نتجاوز التاريخ المثقل أو الواقع الذي تعيشه المنطقة من اشتباك بين الثورة والثورة المضادة ولكن نحاول تأطيره في أطر موضوعية منطقية غير طائفية..

بدأ الكاتب دراسته، التي نشرتها مجلة «الرشاد العربية»، بلوم للنخب «التي تركت المنافذ الثقافية والبنيوية ليتسلل من خلالها من يريد تمزيق الأمة إرباً، وليقف المسلم البسيط حائراً لا يدري كيف انقلب الحال وتبدل شعور السلامة والأمان والقبول رغم الاختلاف إلى فتنة طائشة تدع الحليم حيرانا»، رغم أن «هناك من العقلاء من يتوق إلى تحليل يبتعد عن الغوغائية والتمحور يدفع المرء لأن يقوم بمساهمة - مهما صغرت - تحفز نحو تفكير بمسألة الخلاف الشيعي السني يتجاوز الشعارات المذهبية ويتلمس تفَّهم مسالك العمران وطبائع البشر وتقترح بدائل ذهنية تمتلك كمون تفسير أعمق وأحكم».

ويعرض الكابت خطوط التماس الثلاثة بين السنة والشيعة

أولا: التماس الفقهي

لا يعطي الكاتب لهذا الخط أهمية كبيرة بالنظر لأن عامة الناس مشغولون بأمور معاشهم ولا يكادون يلقون بالاً إلى الخلاف الفقهي وأسانيده في الاستنباط والتأويل ؛ ولكن حين ينقدح الخلاف بين مجموعات البشر لأسباب معاشية سياسية أو اقتصادية تتورم فجأة الخلافات الفقهية وتصبح عند الكثير أصل ولبَّ الخلاف، حتى أن الخلاف بين المذاهب الفقهية السنية فيما بينها قد يساوي أو هو أكبر من الخلاف بينها وبين المذهب الجعفري للشيعة الإثنى عشرية.

والتنازع بين الجهلة من أتباع المذاهب الفقهية السنية معروف، مثل ما يروى في التاريخ عن تشابكهم في مدن العراق، تشابكاً يصل إلى حدِّ الضرب، فمثل هذا التنازع هو تنازع الدهماء والزعران الذي يستند إلى العصبيات والمصالح وليس حقيقة بخلاف مذهبي، ولقد جرى هذا النـزاع ضمن بوتقة السنة و تحت «حكم إسلامي»، أي أن العلة في مثل هذا هو ضمور الفهم و الانتماء العصباوي لمجموعة، وليس في الشذوذ الديني.

ويكفينا هنا التذكير بأن الإمام «الأشعري» يقول بطريقة قاطعة أننا «لا نُكفر أحدا من أهل القبلة»، وهذا هو قول شيخ المدرسة العقدية التقليدية التي مال إليها كثير من أهل السنة تاريخيا.

إن مسألة التكفير خطيرة في نظر الإسلام، وإن مما يميز طبيعة الدين الإسلامي أن من وقر في قلبه وعقله الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يُعتبر مؤمناً لا يحتاج إيمانه إلى توثيق خارجي من مؤسسة أو فرد،  ويقتضي المنطق السليم القولَ بأن من واجب علماء الشيعة الرفض الصريح للآراء الشاذة الواردة في كتبهم والتي تثير حفيظة السنة وشكوكهم، وبالمقابل فإن من واجب أهل السنة أن ينظروا في الطروحات المعاصرة للشيعة التي طوّرت فهمها لمسائل مفصلية (بما فيها قضية الإمامة) وأن لا يجري التعلق بالتراث إذا تجاوزه أهله أو طلبوا له تأويلا مغايرا. 

والعجيب الذي يستحق الإشارة والتأكيد عليه هو أنه رغم الاختلاف في منهل الأحاديث بين السنة والشيعة فإن المترتبات السلوكية والأخلاقية التي انبنت عليها واستمدت منها متشابهة تشابها  كبيرا، فأنمطة الحلال والحرام والمستحبّات والمكروهات وأنسقة الاستقامة والصلاح تكاد تكون متطابقة بين السنة والشيعة.

ثانيا: الصورة الذهنية عن التاريخ

يرى الكاتب أن الخلاف لا يتعلق أن الموقفين مفترقان لا متعارضين أي أنهما يتمسكان بمنظورين مختلفين أصلاً للتحليل وليس منظور واحد تحليلي يتعارضان فيه؛ بمعنى أنه رغم اشتراك السنة والشيعة في تاريخ مسلم واحد فإن كل فريق يفسره من زاوية معينة ويعتمد محك تقييم مختلف، اختلافاً إلى حد التقابل في  بعض الأحيان.

ولنتفحص المواقف النفسية والإيديولوجية تجاه التقسيمات المعتادة لتاريخ المسلمين (أمويين، عباسيين، إلخ...، رغم عمومية هذه التقسيمات)، ولنتجاوز مرحلة الراشدين نظرا لخصوصيتها وعدم تبلور التشيع – كما نعرفه اليوم – آنذاك،  ففي حين تعتز الأكثرية السنية بعصر الأمويين، ترى الأقلية الشيعية أنه زمن الظلم لسارقي الخلافة من مستحقيها الأطهار الذين قطعت النصوص بحقهم بها، فرغم أن الموقف الرسمي السني هو أن عليا كان على الصواب فإن المسألة بالنسبة لجموع السنة ليست أحقية الخلافة وإنما النتائج التي ترتبت عليها، أي أنه لا تتعلق جموع السنة بمجرد شخصيات الخلفاء الذين حكموا وإنما بالمجتمعات المسلمة التي ترعرعت في تلك الأحقاب السياسية وخدمتها لأهداف إسلامية كبرى من تمكين الإسلام وأخلاقياته التي أضحت بمثابة النظام العالمي آنذاك، والاعتزاز الخاص بـ«عمر بن عبدالعزيز» يؤكد على هذه الدلالات، إنه يؤكد على رفض الضمير السني للقصور أو الفسوق الشخصي للخلفاء والتعلق بالإنجازات الإسلامية التي جسدتها أي تجسيد سياسات «عمر بن عبدالعزيز».

ولكن بالمقابل فإن العين الشيعية لا تتطلع بهذا الاتجاه ولا تقف عند تحليل هذه النقطة بالذات، وإنما يتوجه الضمير الشيعي نحو مسألة اختطاف الولاية الموصاة - حسب رأيهم - وتعقّب وقمع الذين تابعوا إحياء هذه الفكرة، وهذا الذي قصدته بالذات حين قلت إن التفارق في المخيال التاريخي بين السنة والشيعة هو تفارق في الوحدات التحليلية المستعملة أكثر من اختلاف في تحليل الوحدة ذاتها، ففي حين يتعلق الضمير الشيعي بالتمام بتضحيات المعارضة ضد الاستئثار بالحكم (وعلى رأسها فاجعة قتل الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم) ينصرف الضمير السني بالكليّة للإنجازات المدنية والاقتصادية والفقهية والتمكين السياسي للملة إلى جانب الفتوحات.

وإجمالا يمكن وصف المخيالين السني والشيعي للتاريخ بأنهما تبلورا على نموذجين متباينين، نموذج البطل ونموذج الشهيد، الأول يركز عينيه على الإنجازات الحضارية الكبرى ويتغاضى - وأحياناً يتجاهل - المطبات والقصور ولو وصل إلى درجة مخزية، أما نموذج الشهيد فيستغرقه شعور الاستبسال في إبقاء جذوة فكرة الإمامة حيّة لمجموعة شكّلت الأقلية في كل العصور الإسلامية، وفي تقديم مساهمات نوعية في وجه الأكثرية السادرة في غرورها السياسي والمبتعدة عن رشد العترة الطاهرة، بحسب رؤية هذا التوجه.

وإذ يعمد المنظور السني إلى المبالغة في الإنجازات الحضارية التي حققتها الدولة الإسلامية لدرجة تصور تاريخ لا تشوبه شائبة، يعمد المنظور الشيعي إلى المظلومية المبالغ فيها التي تغمر تاريخ المسلمين بالسواد الكالح رغم أن بعض الشخصيات الشيعية المعتدلة سياسيا لم تنكر انجازات الحضارة الإسلامية خاصة وأنها اضطرت للتعامل الواقعي مع السياسة حين تولت المسؤولية مثل ما يقول السيّد «محمد خاتمي» في كتابه (الدين والفكر في شراك الاستبداد: جولة في الفكر السياسي للمسلمين) التالي: «واليوم عندما نسمع عن الحضارة الإسلامية كثيراً، فهذه حقيقة اعترف بها الصديق والعدو، وما اشتهرت به يمثل مرحلة مهمة على صعيد المستقبل الإنساني. تلك الحضارة التي انفتحت على حضارات وتجارب أخرى، وتركت قضايا حياتية وفكرية شكلت رصيداً قيماً لمن تلاها من الحضارات الأخرى. والأكثر من ذلك فإن دروها في التغيرات التي طالت الوضع في الغرب وانتقاله مما يسمى بالقرون الوسطى إلى عصر تاريخي جديد، إذا لم يكن الدور الأول فإن تأثيراتها كانت جلية لا يمكن إنكارها»، (ص 66).

ثالثا: العادات الشعبية

يقول الدكتور «مازن موفق هاشم» أن الشعوب المسلمة قبل الحداثة عرفت نمط لا يشبه الجمعية القسرية التي تنفي الخصوصية المحلية مثل نمط المجتمع الحديث، فلقد كان تنظيم تلك المجتمعات مستندا إلى درجة كبيرة على الحي والجوار والمسجد، وصحيح أن المسلمين عاشوا في ظل الخلافة، لكن لم تكن البنية السياسية للخلافة مثل بنية الدولة الحديثة اليوم بكل مركزيتها وقدرتها التنميطية واختراقها لحياة الجماعات والأفراد. وهكذا عاش المسلمون حياتهم على درجة عالية من التعددية التي كان الأثر الأكبر فيها للمحلة الصغيرة لا لأجهزة الدولة المركزية. وتميزت هذه التعددية بأنها كانت تعددية جمعية وليست تعددية فردية على النمط الليبرالي الذي نعرفه اليوم، وفي مثل تلك الترتيبة المجتمعية تحافظ الأقوام على كثير من خصائصها المتفردة سواء كانت خصيصة أساسية كالدين واللغة أو خصائص فرعية كالمذهب والثقافة المحلية للحيّ.

ولأنه كلما تدنى العمق الفكري للناس كلما تضخم دور العادات والأعراف أخذت الطقوس أهمية أكبر من المبدأ الأصلي (الإسلامي) الداعي لها - يقول الكاتب -. فإنه «في زمن الأزمات يتمحور الناس حول هذه الخصوصيات الصغيرة لتشكّل حدوداً فاصلة تُنـفِّر من المشترك العام، وفي زمن الأزمات تعلو أصوات الوعاظ والمحفزِّين التي تتكئ بشكل كبير على الرمزية والصور التاريخية المنقاة من رجس الواقع الحقيقي لما حدث؛ ويتراجع صوت العقل وخطابُ الحكمة في جو الزخم العاطفي المتأجج، وكما هو معروف فإن أكثر ما ُنـفر السنّة من تصرفات الشيعة هي الرمزيات التي يرفعونها ويشيدون بها والتي تقع على مسامع السنة ومداركهم طقوسا و بدعا لا معنى لها،  وأشد ما يُنـفِّر الشيعة من السنة هو عدم توقيرهم لهذه الرموز وعجزهم عن فهم المعاني المحمّلة فيها». 

ولا يخفى أن لهذا مستتبعات حاسمة على المستوى السياسي في مناخ التعبئة والتحريك ولا سيما عند وجود حركات إحيائية، وصحيح أن بعض هذه الحركات قد تكون ذات عمق فكري ودرجة عالية من الالتزام والخلوص، لكن لما كانت المتطلبات العملية للانضمام لهذه الحركات تستلزم همة عالية وتضحيات كبيرة بالجهد والوقت والمال، فإنها تبقى صغيرة نسبيا في حين تجري غالبية الناس وراء خطابات التوفيز، وفي الأزمات العامة حيث تزداد الحاجة للتعبئة العامة وتجد المجموعات الايديولوجية حاجةً إلى تحريك شعبي أوسع من نطاقها المخصوص، فتتشارك الحركات الواعية مع تيارات شعبية أقل عمقاً وفهماً، وتنضوي - ولو على كره - تحت الشعارات والرمزيات الحالمة، وحتى في أوقات السلم فإن رغبة التجميع وجلب الناس تدفع نحو استعمال الشعارات الزاخمة ولو كان فيها تمحور حول الخصوصيات، ويعيب أهلُ السنة على علماء الشيعة عدم انتقاد المضامين الخرافية للطقوس الشائعة، ويعيب الشيعة على علماء السنة تبجيلهم الاعتذاري لرمزيات لا تستحق الاحترام برأيهم، أي أن العادات المحلية الممزوجة برمزية عالية ومضمون عاطفي كبير تُصبح في ساعات الأزمات بالخصوص خطوط احتكاكات ملتهبة.

انتهت - حسب الدراسة - مناقشة ثلاثة خطوط تماس بين السنة والشيعة فيما يعيشه الناس في يومهم الاعتيادي وفيما يحلمون به وتعتلج به قلوبهم وعواطفهم، وأرجو أن يكون قد اتضح أن أوجه التفارق هذه ليست في حقيقتها تفارقات دينية أو مذهبية أو عقدية أو إيمانية، وإن أخذت شكل التفارق المذهبي –وربما تُجرّ لها المبررات المذهبية- وتبدو على السطح أنها كذا، إنها بشكل رئيس تأقلمات لواقع معاشي يتقابل مع مسلمات وخلفيات مختلفة فتأخذ أشكالا وألوانا متباينة، فإذا كان الأمر هكذا يمكننا الانتقال إلى مناقشة الفوارق السنية الشيعية من خلال منظور علاقات الأقلية بالأكثرية (في الجزء المقبل).

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

السنة الشيعة

عن مسألة السنة والشيعة والخوارج

رؤساء الشيعة .. رفقا بالشيعة !

الشيعة لم يهبطوا علينا من الفضاء!

عن دواعش السنة.. ودواعش الشيعة