«جيوبوليتيكال فيوتشرز»: إعادة التفكير في تاريخ العرب

الثلاثاء 3 يناير 2017 12:01 م

تركيا والعراق طرفان في نزاع دبلوماسي. ويدور الخلاف بينهما حول التواجد العسكري لتركيا داخل الأراضي العراقية لتدريب المقاتلين الأكراد (البشمركة) والعرب السنة أيضًا لمحاربة «الدولة الإسلامية» دون إذن العراق. وتقدّر أعداد القوات التركية في العراق بما لا يتعدّى كتيبة واحدة بين 400 و1000 جندي، وهو عدد لا يغيّر شيئًا على أرض الواقع، لكنّه دليل أنّ تركيا لا تزال في مرحلة أولية للغاية للمشاركة أو المساعدة في التخطيط للهجوم على «الدولة الإسلامية» في الموصل. لكن القضية الأعمق هنا، أنّ تركيا، وهي دولة غير عربية، استطاعت نشر جنودها في دولة عربية، دون أن تحرّك أي دولة عربية ساكنًا.

وإذا تحدّثنا هنا عن قوّة تركيا مقارنةً مع القوى الإقليمية الأخرى، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وسيطرتها على أحد أهم الممرات في العالم، مضيق البوسفور، سنتحدّث في المقابل عن ضعف الدول العربية في المنطقة، لكن لم يعد من الممكن الحديث عن الدول العربية ككيان واحد، مثلما أصبحت مصطلحات مثل سوريا والعراق والعالم العربي، مصطلحات جوفاء.

ومنذ واجهت شعوب الشرق الأوسط الإمبريالية الغربية، في القرنين الـ 19 والـ 20، دأبت بريطانيا وفرنسا والقوى الاستعمارية الأخرى على تقسيم المنطقة. وقد كانت «العربية» تشير غالبًا إلى الشعوب الناطقة باللغة العربية والتي تشكل شعبًا يوحّده اللغة. ولكن كلمة «العربية» قد أشارت إلى أكثر من هذا على مدار التاريخ. فقد أشار إليها «برنارد لويس» في كتابه «العرب في التاريخ» وكان أول ما تعنيه قبائل البدو العربية الرحّل من شبه الجزيرة العربية. ثمّ استخدم اللفظ بعد الفتح الإسلامي للتمييز بين العرب الفاتحين والشعوب التي تمّ غزوها. ولكن مع مرور الوقت، فقدت الكلمة معناها العرقي وأصبحت مصطلحًا اجتماعيًا يدل على أناس حاولوا الحفاظ على سبل البدوية القديمة. ومع الوقت، فقد تشبّعت تدريجيًا بما يروج له القوميّون اليوم من الأفكار في نهاية القرن الـ 19.

قومية العرب

ونتعلم في الجيوسياسية أنّ أحد أهم المبادئ المبني عليها عالمنا هي حب المرء لذاته. ويستند النظام العالمي إلى فكرة القومية، التي تعني حب المرء كونه واحدًا من شعبه. وتستخدم القومية حب المرء لبلده باعتباره حجر الأساس في تأسيسي الدولة القومية، وهذا ما حاولت الأمّة العربية فعله في النصف الثاني من القرن الـ 20 بعد أن ذاقت نيران الإمبريالية.

ويوجد ما يساوي «القومية» في الفكر العربي، وهو ما سمّاه ابن خلدون بـ «العصبية»، وتترجم بـ «الصلابة الاجتماعية» التي تسمح لمجموعة من الأشخاص أن يحيوا ويموتوا من أجل بعضهم البعض. واعترف ابن خلدون أنّ العصبية القائمة على الدم أقرب وأقوى من المبنية على الاتفاقات السياسية.

وباستثناء المملكة العربية السعودية، وعدد من الممالك العربية الأخرى مثل الأردن والمغرب، سيطرت أيدولوجيتان اثنتان على الهيكل السياسي للعالم العربي، القومية والاشتراكية، المستوردة من أوروبا. ومن الجزائر إلى العراق، فشلت هذه الأيدولوجيات في الوفاء بوعودها. فلم تجلب الاشتراكية الرخاء إلى الشعوب، ولم تتمتّع الدول القومية بالحرية، بل إنّها في الحقيقة قد دعمت المستبدين والسلطويين.

ويعد وجود «الدولة الإسلامية» مؤشرًا على فشل تلك الأيدولوجيات. فالدولة الإسلامية تعيش في عالم من فشل الاشتراكية والقومية العربية، وجميع أهدافها في الشرق الأوسط والعديد من الدول العربية. لكن المثير للاهتمام، أنّ أيدولوجية «الدولة الإسلامية» اجتذبت المسلمين في الدول العربية، بنفس القدر الذي اجتذبت به المسلمين من غير العرب. ونجد هنا أنّ الإسلام هو الشيء الوحيد الذي نجح دائمًا في توحيد مختلف القبائل والعشائر والأعراق المنتشرة في أنحاء المنطقة في إطار جامع.

ولكن مظهرا آخر من مظاهر انهيار السلطة السياسية العربية، هو أنّه في يوم 4 ديسمبر/ كانون الأول، نشرت تركيا 220 جنديًا تركيًا مدعمين بـ 8 دبابات وعناصر دعم أخرى بالقرب من الموصل التي تسيطر عليها «الدولة الإسلامية». وأطلق الجيش التركي في نفس اليوم برنامجًا لتدريب قوات البشمركة الكردية. وصف رئيس الحكومة «حيدر البغدادي» الأمر بأنّه انتهاكًا للسيادة الوطنية العراقية، ولم يكن مخطئًا. ولم يبلغ رد الفعل العراقي أكثر من التهديد باللجوء إلى مجلس الأمن الدولي، أو الشكوى لقادة حلف الناتو أو الزعماء السياسيين للأكراد.

«العبادي»، في الحقيقة، لا يملك القوّة للرد على تركيا. فتركيا قادرة على قصف شمال العراق في قتالها مع حزب العمال الكردستاني عندما تحب، ويمكن لها التمركز بقواتها خارج الموصل إذا أرادت.

ولا يتعلّق هذا بالعراق فقط، أو سوريا فقط. يتعلق الأمر بانفراد كل دولة بنفسها. فالسعودية تعتمد على تأثير المال والدعم الأمريكي السابق. ومصر منشغلة بالقضايا الأمنية والاقتصادية الخاصة بها، بعد أن كانت قلب العروبة والإسلام النابض، ولم يأخذ أحد مكانها. وليبيا لم تعد موجودة. واليمن منطقة حرب دائمة. ولم تعد هناك وحدة عربية، بل طائفية وقبلية وفئوية. وعادت العصبية البدائية، لمجموعات صغيرة تقاتل من أجل بقائها دون الآخرين.

حكم القوى الأجنبية

وانتهى عصر الخلافة العربية عندما حاصر المغول بغداد، التي كانت قد أضعفت بالفعل تحت وطأة الهجمات التركية والفارسية التي استمرت في القرن الـ 13، ومنذ هذه اللحظة وحتّى نهاية الحرب العالمية الأولى، حكم العرب قوىً أجنبية. وكان الجزء الأكبر من هذا الوقت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية التركية. ومنذ عام 1918 وحتّى عام 2011، كانت سنوات نادرة من التاريخ حكم فيها العرب أنفسهم. ومع ذلك، فقد حان انتهاء هذه الحقبة. ويعاني العالم العربي الآن من الانقسام والتفرّق، وفقد مصطلح «الأمّة العربية» معناه.

وكانت المنطقة دائمًا ساحةً للمنافسة بين القوى العظمى، العثمانيين والصفويين، الأمريكيين والسوفييت. واليوم تنشط القوات الأجنبية من الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا في المنطقة. وتملك إيران الفارسية الشيعية نفوذًا هائلًا في بغداد وفي جزء كبير من المنطقة عبر وكلائها. وتنجر تركيا إلى الدوامة التي خلقتها «الدولة الإسلامية» ضمن الحدود القديمة لسوريا والعراق. والأكراد محاصرون في المنتصف، يقاتلون تركيا باستخدام بعض العشائر والقبائل لتحقيق أغراضهم الخاصة، ويحاربون الآخرين كذلك عند الضرورة. ويظن الناس الآن أنّ الشرق الأوسط يعيش حالة من الفوضى، لكنّ المطّلع على التاريخ يعرف أنّ الشرق الأوسط قد عاد هكذا لطبيعته المألوفة، وأنّ الاستثناء لا يتعدّى الـ 100 عام الماضية.

ولا يرغب الأتراك في إغضاب ما تبقى من العراق. وستفعل أنقرة ما بوسعها لتهدئة مشاعر «العبادي». وحتّى مع ذلك، هناك شيء مميز يحدث لنلاحظه. أصبح من الصعب الحديث عن العالم العربي إلّا لنشير إلى وصف غامض إلى الشعوب الناطقة باللغة العربية في الشرق الأوسط. توجد «الدولة الإسلامية» والعصبية الضيقة. وفي الوقت الراهن، يقع مصير المنطقة في نهاية المطاف على نتيجة الصراع الحتمي بين القوى السابقة والأجنبية.

المصدر | يعقوب شابيرو - جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

سوريا العراق تركيا القومية العربية الدولة العثمانية الدولة الإسلامية