استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

نقد مقولة «الانتقال الديموقراطي» بالتطبيـق على مصر الآن

الأربعاء 26 نوفمبر 2014 04:11 ص

لقد أقام الفكر الغربي، خلال العقدين الأخيرين، بناءً فكرياً كاملاً أو شبه كامل حول مقولة «الانتقال الديمقراطي» (Democratic Transition)، وتزايد انتشار هذه المقولة في أعقاب انهيار المنظومة الاشتراكية، بقيادة السوفيات، في منطقة أوروبا الشرقية، والتي تساقطت نظمها الحاكمة مثل حبات العقد المنفرط، من قبل ومن بعد انهيار «الدولة الأم» – الاتحاد السوفياتي عام 1991.

وبعد النجاح النسبي الذي حققته دول الغرب في فرض سقوط الكتلة السوفياتية، كان لا بد من إيجاد سبل بديلة في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن، لدول أوروبا الشرقية، وخصوصاً بولندا والمجر و(تشيكو-سلوفاكيا) و(ألمانيا الديموقراطية- الشرقية سابقاً)، ودع عنك (رومانيا) الجريحة، و(يوغوسلافيا) السابقة ذات السياسة الاستقلالية الخاصة.

على أنقاض المنظومة الاشتراكية، بالقيادة السوفياتية، أقيمت نظم سياسية جديدة، ذات طابع تعددي يلعب فيها «المجتمع المدني» دوراً أكبر، وأجريت انتخابات مفتوحة، بدلاً من نظام الحزب الواحد أو القائد، كما كانت الحال قبلاً. وأطلق البعض على الوضع السياسي الجديد تعبير «ربيع أوروبا الشرقية» تيمناً بربيع براغ عام 1956 (حين قامت أول انتفاضة ضد الحكم الموالي للسوفيات في العاصمة التشيكية بمساعدة غربية) وتيمناً بذكرى انتفاضة أخرى مدعومة من الغرب في تشيكوسلوفاكيا عام 1968.

هذا في المجال السياسي. أمّا في المجال الاقتصادي فقد جرى العمل على إقامة ما سمي بالاقتصادات الانتقالية (Transitional Economies) حيث أخذ يحلّ القطاع الخاص محل القطاع العام، وقوى السوق بدلاً من التخطيط القومي الشامل. وجرى تفكيك البنى الاقتصادية والصناعية السابقة خصوصاً في (ألمانيا الشرقية) وتفكيك مؤسسات دولة الرفاهية والرعاية الاجتماعية في ظل الحكم (الاشتراكي) السابق.

ودعماً لمسيرة البناء السياسي، على النسق الغربي، والبناء الاقتصادي على الأنموذج الرأسمالي، تمّ ضمّ دول أوروبا الشرقية إلى (الجماعة الاقتصادية الأوروبية) مع تقديم مساعدات مالية واقتصادية هائلة لدعم التحول البنياني ذي الطابع الانفجاري العميق.

أما في المجال الأمني، فقد جرى ضمّ دول أوروبا الشرقية إلى «الناتو» أو ما يسمّى بـ«حلف الأطلنطي»، بعد حلّ (حلف وارسو) الذي كان يجمع الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية في منظومة أمنية – عسكرية مشتركة.

وقد تحقق قدر كبير نسبياً من النجاح للانتقال المدعوم أميركياً وأوروبياً إلى أقصى مدى، بما يشكل نوعاً من «حقل التجارب» للفكرة التي روجت لها الرأسمالية الغربية المعولمة، والتي تقوم على إزاحة الفلسفة الاشتراكية جانباً، بتجلياتها الاقتصادية والاجتماعية الجوهرية، واستبدالها بجملة منظومات إحلالية تقوم على مفاهيم قديمة ألبست لباساً جديداً. كان أبرز هذه المفاهيم: (الديموقراطية) و«حقوق الإنسان»، والحريات المدنية، في المجال السياسي، ومفاهيم: مكافحة «الفقر» وتحقيق التنمية البشرية (ولا بأس إن أطلق عليها مسمى «التنمية الإنسانية»)، و«التكيّف الهيكلي» في المجال الاقتصادي – الاجتماعي.

وقد نشطت المنظمات الدولية غير الحكومية ذات المنشأ الأميركي والأوروبي – الغربي (وخصوصاً من ألمانيا والإسكندنافية) لتنتشر الأفكار البديلة في مناطق من (العالم الثالث السابق) خارج القارة الأوروبية، أي في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وجرى العمل على دعم التأسيس، وحرية النشاط للمنظمات غير الحكومية العاملة في مجال تعزيز الممارسات المسماة بالديموقراطية، ولا سيما في ميدان الانتخابات. وأنفق جهد كبير ومال كثير من أجل هذا الغرض، معززاً بنشاط ضخم لتقوية الأعمال الرامية إلى مراقبة تطبيق الحقوق، والحريات المدنية، مثل «حق التعبير» و«التظاهر»، والممارسات السياسية بخاصة الانتخابية منها. وتأكيداً لذلك تألفت منظمات دولية، غير حكومية مهتمة بصفة خاصة بمراقبة مدى تطبيق دول (العالم الثالث السابق) للحقوق والحريات المذكورة (مثل «هيومان رايتس ووتش»– ذات المنشأ الأميركي).

وأقيمت «ورش العمل» والندوات (الصغيرة والكبيرة)، والمؤتمرات الحافلة، لدعم التوجهات الجديدة، وألفت المطبوعات الإرشادية الصقيلة، عن الآليات الانتخابية وما يتصل بها من طرق التعامل مع السلطة...إلخ؛ فكان أنْ بُني صرح ضخم، ممرّد بقوارير – إذا صحّ التعبير هنا – حول مفهوم «الانتقال الديمقراطي».

وكان لا بدّ من أن تقوم الدول الغربية – بقيادة الولايات المتحدة التي أسهمت، من أمام ووراء الستار، في العملية السابقة - بدعم التحولات ذات الطابع «الدراماتيكي» في أوروبا الشرقية مطلع التسعينيات، ثم دعم تحوّلات أريد لها أن تكون مناظرة لربيع أوروبا الشرقية في مجموع (العالم الثالث السابق) . وكان العنوان الكبير لهذا الصرح الضخم هو «الانتقال الديموقراطي» فإذا به فرع قائم بذاته من أبحاث (السياسات المقارنة) في العلوم السياسية، معزّزاً لفرع قائم بذاته في أبحاث (النظم الاقتصادية المقارنة) تعليماً وعملاً أكاديمياً لـ«الاقتصادات الانتقالية» ضمن الشجرة الباسقة لعلم الاقتصاد.

فلما حدث «الانفجار العظيم» في الوطن العربي، بدءاً من تونس، فاليمن ومصر وغيرهما، منذ (يناير/ كانون الثاني 2011)، بذل جهد غربي (أوروأميركي) مثابر، من أجل محاولة ترويض الكائن الأسطوري المولود، عن طريق محاولة إلباسه ثوب (الربيع) المجرّب، سابقاً، في أوروبا الشرقية، على الأنموذج المختبر لنظرية «الانتقال الديموقراطي»، وفق الفلسفة الليبرالية في السياسة والاقتصاد والمجتمع. وكان الهدف المستتر، هو دعم التحول، أو الانتقال الرأسمالي، اعتماداً على قوى السوق والقطاع الخاص الكبير، وتعزيز محاولات الإلحاق بالاستراتيجية الأمنية – العسكرية الشاملة للغرب بواسطة «حلف الاطلنطي» في المنطقة العربية.

وإنّا لنعلم أن بعضاً من أفضل المثقفين العرب ومن أكثرهم نُبلاً، قد تبنّى في وقت أو آخر مقولة «الانتقال الديموقراطي»، داعياً إلى أنظمة ذات طابع «ديموقراطي» و«ليبرالي» خاصة. ولكن من الصحيح أيضاً أن المنظمات الدولية، غير الحكومية، ذات المنشأ الغربي، قد بذلت الكثير من الجهد لإذاعة مفهوم «الانتقال الديموقراطي» في سياقه الأوروبي، من دون الأخذ في الاعتبار ضرورات التطويع والمواءمة مع الظروف العربية.

ونعلم، بصفة خاصة، أن حكومات العالم الغربي أخذت تطور أدوات وآليات العمل في مجال السياسة الخارجية، من خلال ما يمكن تسميته «بدبلوماسية حقوق الانسان» وما يرتبط بها من (دعاية) الحريات والممارسة الديموقراطية، من أجل تحقيق الهدف الأكبر لترويض النظم الحاكمة فى المنطقة العربية، أو إعادة صياغتها، بل ومحاولة «إعادة تشكيل» البنى المؤسساتية الأضخم، ولم لا نقول «إعادة تشكيل» الدولة نفسها والمجتمع نفسه، في هذا الجزء العربي أو ذاك، بما في ذلك مصر بطبيعة الحال.

لقد كان الطموح لبعض دوائر الحكم في الغرب، وبعض دوائر مراكز البحث المتخصصة، وأجهزة «الدهاقنة» في الإعلام الدولي، ووسائل التواصل عبر الشبكة العنكبوتية، في ما يتعلق بمصر مثلاً، هو العمل على حرف ثورة يناير العظيمة عن مسارها الوطني – القومي التقدمي. وكان الأمل أن ترفع هذه الثورة لواء (الربيع) في تلك الأشهر الفاصلة من عام 2011 و2012. وبعد تربع ممثلي جماعة «الإخوان المسلمين» على بساط الحكم من (30 حزيران 2012 - 30 حزيران 2013)، كانت المحاولة الغربية متجهة نحو دعم بناء نظام سياسي ممثل للإسلام المسمّى بـ«المعتدل» في مصر، من أجل لجْم «الإسلام السني المتطرّف»، من جهة أولى، وبناء منصّة موازية ومقابلة، وربما مناقضة لنموذج الجمهورية الإسلامية فى إيران، على الجانب (الشيعي) من جهة ثانية.

بانهيار هذا التصور (الغربي الأميركي) عن مصر، بفضل الهبّة الشعبية في الثلاثين من حزيران 2013، حاول بعض دوائر الغرب إعادة تحريك عجلات القطار نحو دعوة «الانتقال الديموقراطي» مرة أخرى، وما كان الهدف الحقيقي «الانتقال الديموقراطي»، ولكنْ اتخاذه متكأً ضمن «دبلوماسية وسياسات حقوق الإنسان»، أو «صنع السياسة الخارجية بأدوات الإيديولوجيا السياسية». والهدف الخفي ربّما هو تحويل مصر بعد 30 حزيران إلى دولة معاقة (Disabled State) عقاباً لها على عدم اندراجها ضمن «نموذج باكستان» تلك الدولة التي تحوّلت إلى مسرح لاستعراض القوة العسكرية الأميركية على ملعبها الكبير لمكافحة (الإرهاب) الإسلاموي، وبخاصة على ساحة «أفغانستان - باكستان» وباستخدام الطائرات الأميركية من دون طيار (الدرون).

وقد جرى بالتوازي مع ذلك الجهد الغربي – الأميركي، وليس بالتوافق على كل حال، جهد متزامن من بعض القوى السياسية في مصر وشرائح الشباب، لاتخاذ بعض الممارسات المعتمدة من قبل السلطة في سياق مواجهة موجات العنف الدموي (الإسلاموي) مناسبة للعمل التعبوي من أجل تمهيد طريق «الانتقال الديموقراطي» من وجهة نظرهم، على النمط المسمّى بـ«الليبرالي»، من دون دراية أنّ «الانتقال الديموقراطي» ليس بطريق نمطية واحدة، وإنما هو طرق كثيرة، قد لا تلتقي؛ ويجب في جميع الأحوال، أن يكون تصميمه وتفعيله رهناً بالظروف الموضوعية الخاصة بكل بلد.

وفي ما يتعلق بمصر، على سبيل التحديد الآن، فإن «الانتقال الديموقراطي» ينبغي - من وجهة نظرنا - أن يعامل بوصفه هدفاً تابعاً لمنظومة هدفية أكبر، تشتمل على حفظ الكيان الوطني في وجه العنف الدموي (الإسلاموي)، وإعادة بناء الدولة، واستعادة التعافي الاقتصادي والعافية الاجتماعية.

وأمّا العمل من أجل الحريات والحقوق (المدنية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية أيضاً)، فهو في الحقيقة عمل دائب على طريق الكفاح (الاجتماعي – التاريخي) لتعزيز قوة الطبقات الشعبية في ميزان الصراعات الاجتماعية، ورفع سويتها التنظيمية والنضالية، بشكل جذري، لتفرض مطالبها على رأس جدول الأعمال المجتمعي.

هو إذاً «انتقال ديموقراطي» لا يقوم بضربة واحدة، أو ضربات خبط عشواء، أملاً في محاكاة مسار الانتقال الأوروبي، بظروفه المغايرة، وإنما هو انتقال على المسار المتصل لـ«ثورة يناير»، باعتبارها، في رأينا، الوليدة الشرعية لـ«ثورة تموز 1952» والتفتح على المستقبل، بالعمل الشبابي الشعبي عند الجذور (grass roots) وبأسلوب الكفاح الاجتماعي التاريخي طويل الأمد، كما أشرنا.

وإذْ نخطّ هذه الكلمات، فإن مقصدنا الإسهام في المناظرة العظمى، في مصر الآن، بين الدعوة «الليبرالية» التي أخذت تتبناها أقسام واسعة من شباب «ثورة يناير» في الوقت الراهن، وبين «الدعوة الوطنية – القومية التقدمية» المنبعثة من المسار النضالي المتصل للشعب المصري خلال القرنين الأخيرين. وهذه في خاتمة المطاف «رسالة إلى من يهمّه الأمر».

* د. محمد عبد الشفيع عيسى مفكر اقتصادي وأستاذ بمعهد التخطيط القومي ــ القاهرة

المصدر | الأخبار اللبنانية

  كلمات مفتاحية

نقد مقولة «الانتقال الديموقراطي» مصر شباب ثورة يناير الحريات الحقوق الصراعات الاجتماعية