استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

عندما يحتل الخبراء مكان السياسيين

الجمعة 24 مارس 2017 05:03 ص

عندما تحدثنا سابقا عن محاولات تقزيم، أو حتى إماتة السياسة في مجتمعات العرب، فكرا وتنظيما ونشاطاَ، فإننا كنا بالطبع نشير إلى سياسة ذات مواصفات نعتبرها أساسية. لقد كنا نتكلم عن السياسة القائمة على مبادئ وممارسات الأخذ والعطاء، على التنازلات المتبادلة، على قبول الآخر والتعايش معه بتسامح، على التشارك المجتمعي العادل في الثروات والقوة المادية والمعنوية، أي على الأسس والممارسات الديمقراطية في تنظيم حقل السياسة التي تتلخص في كبرى أسسها: العقلانية والحقيقة والعدالة.

ذلك أنه عندما لا توجد حياة سياسية كتلك فإن فراغا هائلا سيوجد في المجتمع. وكما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ فإن الحياة المجتمعية هي الأخرى لا تقبل الفراغ أو الخواء.

إذ عند حصول مثل ذلك الفراغ السياسي تهب أعاصير وتشتعل حرائق من مثل الطائفية العنيفة المجنونة المتزمتة في الدين أو المذهب، أو من مثل الولاءات القبلية والعشائرية التي تعلو على الولاء للوطن والمواطنة، أو من مثل المطالبات الانفصالية العرقية، التي جميعها تؤدي إلى تمزيق الأوطان أو إدخالها في حروب أهلية، أو جعلها نهبا لتدخلات الخارج والأعداء. المفجع أن تلك الصورة المرعبة المأساوية هي التي نراها تحدث عبر طول وعرض الوطن العربي بظلال وألوان متفاوتة.

لكنّ هناك جانبا آخر نحتاج لإبرازه، إذ أنه لا يتمظهر كعواصف ونيران، وإنما يكوُن إشكالية في نوع نظام الحكم وفي مدى كفاءته، إذ في هذه الأجواء التي تتميز عادة بانطواء الأفكار والمبادئ والقيم الأخلاقية على نفسها، وبانزواء طبقة السياسيين الجادين غير المهرجين، تنتقل المجتمعات إلى أن تمسك بخناقها ظاهرتان جديدتان تحملان الكثير من الأخطاء.

الظاهرة الأولى هي قيام وتحكُم ثقافة اقتصاد السوق المنفلت، الذي لا تحكمه إلا قيمة واحدة، هي قيمة الربح، وذلك من خلال المنافسات المجنونة المتقاتلة بلا ضوابط ومن خلال الفساد وشراء الذمم. ومن أجل تبرير النتائج الكارثية للظاهرة الأولى، وعلى الأخص تبرير ازدياد غنى الأغنياء وفقر الفقراء، يستعان بالظاهرة الثانية: ظاهرة الصعود المذهل لمن يسمون أنفسهم الاختصاصيين الخبراء القادرين على ممارسة سحر الحلول، ووضع الخطط التنموية الخمسية أو العشرية أو وصولا حتى إلى الثلاثينيه.

لكن هؤلاء الخبراء سيعتمدون في تقديم استشاراتهم على ثالوثهم المقدس، المتمثل في الإحصائيات والمعادلات الرياضية واستطلاعات الرأي، المعبرة عن مشاعر مؤقتة ومتقلبة. لن يكون هناك مكان للمبادئ وقيم الرحمة والتعاضد والتوازنات المجتمعية الإنسانية، إذ ستحل محلها معادلات مدارس ومؤسسات العولمة المقدسة التي تحتكم فقط إلى الإيمان المطلق بقدسية متطلبات حرية الأسواق وتعاظم الأرباح التي لا سقف لها.

لكن هؤلاء الخبراء لا يكتفون بممارسة طقوسهم في الحجرات المظلمة، وتقديم استشاراتهم إلى أجهزة حكم كسولة متثائبة، وإنُما يحتلون المساحة الأكبر من حقول الإعلام السمعي والبصري والتواصلي الجماهيري.

لنلاحظ العدد الهائل من الخبراء الذين تستضيفهم وسائل الإعلام، بعد كل نشرة أخبار، ليقدموا تنبؤاتهم وتخميناتهم وادعاءاتهم وتوجيهاتهم في حقول السياسة والمال والاقتصاد والأمن والإرهاب والبيئة، حتى ما يجول في خواطر الناس ونفوسهم أصبح موضوعا لهؤلاء الخبراء.

لكن ما لا يمكن إغفاله هو الخليط العجيب في تركيبة ما يقدمه هؤلاء، إذ يختلط العلم بالظن والتخمين، الاعتقاد بالمعرفة، والعواطف بالعقلانية. ويشعر الإنسان بأن التواضع قد اختفى في عالمنا.

عندما تغيب الأفكار السياسية الكبرى وينزوي السياسيون الملتزمون بتلك الأفكار، ويقبع المفكرون الإنسانيون في زوايا المؤتمرات ليتحدثوا مع أنفسهم، وتصبح قيمة العدالة كلمة أيديولوجية يُستهزأ بها، فإن فراغا سياسيا هائلا يحدث ليملأه الخبراء الذين كما قلنا ونكرر، لا يحتكمون إلا إلى ثالوث المعادلات الرياضية والإحصائيات واستطلاعات الرأي، الثالوث الذي لا يهمه أن يعيش الإنسان في عالم لا رحمة فيه، ولاعدل ولا إنصاف ولا تضامن بشري.

في هذه الأجواء لا يقدم الخبراء التحاليل والبدائل فقط، وإنما يُسمح لهم أيضا باتخاذ القرار. لم لا، إذا كانت السياسة، في المجتمع وفي السلطة، قد تخلت عن ممارسة أهم أسباب وجودها وهي اتخاذ القرار وتحمُل مسؤولياته.

في المحصلة، الذي يدفع الثمن هو الإنسان المواطن. فاذا رفض وثار من أجل حريته وكرامته وعدالة عيشه قمع أو سجن أو قتل أو دمر مسكنه أو شردت عائلته في المنافي. وإذا استكان وأصبح لامباليا انبرى المثقفون والمفكرون بلومه وتقريعه واستنهاضه وتحميله مسؤولية الكوارث. إنها حلقة مفرغة تتأرجح بين الثورات والحراكات المهزومة، وبين الهدوء والتثاؤب الممل. إنه ثمن تغييب وغياب الممارسة السياسية الحقيقية المعقولة الصادقة السلمية في وطن العرب.

* د. علي محمد فخرو كاتب ومفكر بحريني. 

المصدر | القدس العربي

  كلمات مفتاحية

الخبراء السياسيون العقلانية الحقيقة العدالة الفراغ السياسي اقتصاد السوق تفاقم الفقر