استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

الهرولة نحو عصر المحميات مجدداً

الثلاثاء 9 ديسمبر 2014 03:12 ص

القول أن الدول الكبرى قادرة على فعل كل شيء تكذّبهُ تخبطات السياسة الدبلوماسية في مشاكل الشرق الأوسط. فهي تلك السياسة التي لا تغير من تقاليد عنفها التقليدي إلا وسائلَ الإخراج ومسرحات الوسائل المعرفية المستجدة في نطاق المعلوماتية، بينما يتجاوز التخبط في القرار، وفي الممارسات، ذرواتٍ قياسيةً غيَر مسبوقة، إذ لا تجني تحركاتها سوى تراكمات الفشل، غير أن الجهات التي تدفع تكاليف هذه الخيبات هي شعوب المنطقة أولاً.

فمنذ أن استحوذت قضايا الشرق الأوسط على معظم اهتمامات السياسة الدولية للغرب، ومنها مشاكل الحرب والسلم في المنطقة، وعلى الدبلوماسية الأمريكية خاصة، لم يعد يمكن التمييز بين النشاطين السياسي والعسكري، وفي صورته الأمنية تحديداً، بالنسبة لاستراتيجية التسلط المصطلح عليها بمناطق النفوذ. حتى كأنما كل دولة كبرى تتنامى حدودها الجغرافية، ليصير لها حدود عالمية. وبالتالي يتوقف أمنُ الوطن الأصلي على مكاسبه من أوطان الإغتراب.

أمريكا المعاصرة راهنياً هي الدولة الكبرى، النموذج الأعلى لما يسمّى بالدولة العالمية. ولم تكتسب هذه الصفة لكون النفوذ الأمريكي شاملاً معظم محاور السياسة الدولية فحسب، بقدر ما تتميز بالتركيز الحركي في جغرافية القارة العربية والإسلامية ومحيطها. عالمية الدولة الأمريكية تأتيها في الأهمية الأولى، ليس من سيطرتها على وطن الطاقة الطبيعية، بل في جعل هذه السيطرة هي المتحكمة وحدها تقريباً في تقلّبات الموارد الأولية التي تحتاجها دول العالم أجمع.

لكن بالمقابل لم تستطيع أمريكا أن تفرض سلامها الخاص، كما تفهمه على هذه الأوطان المتميزة بمصادر القوة والطاقة. فكانت هي أوطان الاضطرابات الفالتة من عقالها في أغلب الأحيان؛ أي أن عوامل الأمان والتفوّق للدولة الكبرى، لم تنعم بشروط الأمان المستتب بصورة دائمة، فالشرق الأوسط ليس ملكية أمريكية خالصة.

هذا، رغم الحاجة المطلقة لمعظم كيانات جغرافيته لمختلف أشكال الحماية الدولية، التي تحتكر أمريكا توفيرها لها، وتعمل هذه بكل جهد على مقاومة وطرد كل حماية أخرى دخيلة. بل لعلّ مفهوم الحماية كما تتعاطاه تقاليد البيت الأبيض والبنتاغون، كان يقوم على أساس تثبيت الحقائق المتكفلة بوحدانية نفوذها العقلي، والمدافعة ضد كل عامل دخيل أو طارئ آخر. وتحديداً فإن احتكارية النفوذ الأجنبي الواحد الذي هو أمريكي، لا بد أن يأتي ضداً على النفوذ الوطني، أي على مبدئية الاستقلال الوطني لمالكي الثروات الأصليين من أصحاب التراب الوطني نفسه.

فلا غرابة اذن إن تحوّلت مناطق النفوذ إلى مراكز استقطاب لمختلف عوامل الصراع الإقليمي/الدولي في آن واحد.

لعلنا نفهم إذن لماذا استمرت قارة العرب والإسلام وحدها أرضاً للثورات والحروب والفظائع على أنواعها المعروفة وسواها المستجدة والمستحدثة مع تحولات الحركات الوطنية في أقاليم هذه القارة، مع الانحرافات الهمجية التي تصدّت لها داخلياً وخارجياً. إذ هنالك طبقات من الأعطال الجيولوجية في تربة أنظمة الحماية التي لم تعد متداولة إعلامياً بألفاظها المباشرة، لكنها نمت وانتشرت؛ فلم تذهب خصائصها مع انقضاء حقبة الاستعمار الأوروبي القديم. على العكس فإنها جددت جذورها حسب قانون اضطراد صراع العالميات من ناحية، وما يقابلها من تصاعد حركات العالم الثالث الأوسع، من ناحية أخرى، بحيث تجدد التسلّط تحت أقنعة الحمايات، المشمولة بالتوصيفات العالمية لمفرداتها الجديدة.

فإذا لم تخدعنا توصيفات الحقبات بألفاظها الأيديولوجية أمكننا تبيين الإسم الواحد الشامل الذي يجمعها تحت معناها الثابت، وهو كون القارة العربية الإسلامية لا تزال خاضعة لنظام الحماية المباشرة والتفصيلية، سواءً اعترفت النُخب المحلية بهذا الواقع أو تابعت انكاره، مدّعية إنها تجاوزت تبعيات مناطق النفوذ، فإنها طردت (جيوش) المستعمرين الأوائل، وأنها خاضت معارك التحرر الوطني، وأنها انتزعت استقلالها كدول شرعية برعاية القانون الدولي. ذلك هو وهم الأوهام كلها التي شكّلت مرايا عوالم برّاقة، لم تقم صروحها إلا في مخيلة البعض من قادة المرحلة الوطنية الآفلة؛ ولقد حان وقت تمزيق الوهم المصطنع. فالحال الراهنة لا تنبئ عن اضمحلال أية إشارة حية دالة على انقضاء عصر المحميات، فلا بد من إعادة النظر في خارطة المصطلحات السياسية.

لا بد من تقدير القيمة الفعلية المتبقية من خلاصات التجارب المرة مع أوهام التحرر الماضية. ومع ذلك فقد يتبقى منها راسب يتيم لأنه حقيقي، سوف ينبئنا بالخبر اليقين وهو أن القارة العربية الإسلامية لم تكن فحسب طيلة عصر التحرر مجرد أصقاع رملية، وتتخللها بضع واحات متنافرة من المدن والأرياف المتباعدة عن بعضها. وإنها كانت ملتجئة دائماً، عن وعي أو عن جهل، إلى قوى أعظم منها للحفاظ على بقايا وجودها العادي أو العضوي على الأقل. ولكن المرعب حقاً أن هذه المرحلة، وهي في حدها الأدنى من التبعية الحمائية، قد استُْنزفت، وأن هذه القارة تدخل عراءَ الإنكشاف، إنها فاقدة حتى لبقايا تلك الرواسب من الحمايات القديمة. فقد أمست على وشك أن تعاود الاستنجاد بأبسط أشكال التبعيات المباشرة. بعد أن أضحت مطرودةً وراء كل الأبواب الموصدة، مقذوفاً بها إلى العراء، إلى الرمال المحترقة تحتها والسماء اللاهبة المرمية فوق جسدها.

عندما هاجم بعض العرب معاقل الرأسماليين في برجيْ نيويورك (أيلول/سبتمبر) اعتقد جيل من شباب الأمة أن المحميين القدامى قد انقلبوا على حماتهم الزائفين، وأنهم انتقلوا من حال المعاناة السلبية إلى إرادة الفعل المنظم والتقني الحداثي. لكن سرعان ما انعكس انتقام المظلومين من أعدائهم نحو صدورهم هم، فقد ارتدّت أفعال الانتقام من جغرافية العدو الظالم، لتحط بفظائعها في عقر دار الضحايا من جديد . والأنكى من كل ذلك أن الثارات المكبوتة لم تجد أمامها سوى أجساد أصحابها، لتصبّ عليهم جام غضبها. إنه قدر المحميات، ألا تتحرر من حُماتها حتى تقع أسيرة للأفخاخ عينها التي كانت نصبتها لأعدائها الدهريين..

فمن هو الأشد نقمة وظلماً، القاتل الأول أو المقتول الأخير. ومن سوف يحدد البدء والنهاية في هذه المعادلة الشيطانية.

ذلك هو بعض خواص «المحميات» التي لن تنمحي أسوارها من جغرافية الأرض، وإن أقامت لها شواهد دموية في كل عصر. ولعل العصر العربي وحده سيكون الأظلم في موسوعة القهر الإنساني حيثما لن يتبقى بعده من عصر لقاتل ومقتول إلا وله فيه أمثلة عنه لا تعد ولا تحصى. والمفجع في كل هذا أنه بات عصراً فاقداً لثاراته مقدماً، لا يُسقط طاغوتاً إلا لينبعث من رميمه قوافل طواغيت عابرة للآفاق وللحدود في كل خارطة جيوسياسية مشتقة من سلالة المحميات التاريخية المستديمة إياها.

٭ د. مطاع صفدي مفكر عربي مقيم في باريس. 

المصدر | القدس العربي

  كلمات مفتاحية

الدول الكبرى تخبطات دبلوماسية الشرق الأوسط أمريكا السلام الأمريكي الحماية الدولية مناطق النفوذ الصراع الإقليمي/الدولي قارة العرب والإسلام أرض الثورات الحروب الفظائع