قصة «الشعبوية» المصرية.. هل تسير «أمريكا ترامب» على الطريق؟

الاثنين 28 أغسطس 2017 05:08 ص

كانت الإسكندرية، العاصمة الثانية في مصر، مكانا ذا شأن عالمي في يوم من الأيام. وتقع المدينة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​في زاوية أفريقيا والشام، وجذبت عددا كبيرا من اليونانيين والإيطاليين واليهود الأوروبيين واللبنانيين وغيرهم. وكانت مركزا للعديد من اللغات والثقافات في المجتمع متعدد اللغات الذي كان مصر في أواخر القرن الـ 19 والنصف الأول من القرن الـ 20. لكن المدينة تحولت تماما وطمست معالمها. وتعد الإسكندرية امتدادا صارخا الآن، ونتيجة مؤسفة، لضعف التخطيط الحضري أو عدم وجوده، والنمو السكاني في مصر، والفساد واسع النطاق. وفي تطور آخر، أصبحت المدينة أيضا معقل الإسلاميين على مدى العقود الأربعة الماضية.

هناك بالطبع الكثير من القصص عن مصر خلال ما يسمى بالفترة الليبرالية، أي الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى خلال الأربعينات. ولم تكن مصر أبدا تقدمية كما يتم تصويرها في بعض الأحيان. وحتى المذكرات الحميمية عن الحياة في الإسكندرية والقاهرة في منتصف القرن العشرين، تصور واقعا أكثر تعقيدا من خلال الاحتلال الأجنبي، والنظام الاقتصادي شبه الإقطاعي، والتمييز والتعصب الديني، فضلا عن الفاشية كما وصفها البعض. ومع ذلك، كانت مصر خلال تلك الأعوام مجتمعا أكثر تسامحا وانفتاحا وديناميكية. وعلى مستوى النخبة، على الأقل، كان الناس من جميع الطبقات والخلفيات والخبرات جزءا من النسيج الاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي والاقتصادي للمجتمع.

غير أن هذه الحالة قد اختفت بالنسبة للجزء الأكبر من الأعوام الـ 60 الأخيرة. وما حدث لمصر هو تطوير مجموعة قوية من الأفكار المتعلقة بالشعبية والقومية والأصولية الدينية، أثارها القادة السياسيون لمصالحهم الضيقة. ولا تزال تفاصيل تلك القصة غير معروفة إلى حد كبير خارج العالم الصغير نسبيا من المتخصصين في السياسة والتاريخ المصريين، لكنها ذات صلة، غير متوقعة، بالمعضلات السياسية والصراعات التي تشهدها الولايات المتحدة حاليا. وفي ضوء الاختلافات الواسعة في التاريخ والثقافة والنظم السياسية والتنمية الاقتصادية بين البلدين، تعد قصة مصر قصة تحذيرية للولايات المتحدة اليوم. فقد تسبب هذا الشراب السام من السياسات الشعبوية والقومية والدينية في الانحدار المصري، وهو نفس الوضع الموجود في المجتمع الأمريكي اليوم.

انقلاب الضباط

عندما استولى الضباط الأحرار على مصر في انقلاب عسكري في الصباح الباكر من يوم 23 يوليو/تموز عام 1952، لم يكن لديهم سوى فكرة بسيطة عن كيفية إدارة شؤون الحكم وما هي أهدافهم بالضبط. وأشار المقدم «أنور السادات»، الذي أعلن الاستيلاء عبر الإذاعة المصرية، على الفساد والآثار المدمرة لاستمرار الاحتلال البريطاني للبلاد. وفي البداية، ذكر هؤلاء القادة الصغار نسبيا، ومنهم «جمال عبد الناصر»، أنهم يسعون فقط إلى «الإصلاح»، لكنهم أعلنوا في وقت ما أنهم سيهدمون النظام السياسي تماما ويقومون ببناء نظام جديد، وهو النظام الذي سيستفيد فيه الضباط ظاهريا من السلطة. وقد أنتج هذا المشروع، وخاصة الجزء الذي أعطى الجيش مكانة بارزة في النظام السياسي الجديد، مجموعة متنوعة من المعارضة، بدءا من الليبراليين والشيوعيين إلى الإخوان المسلمين والطلاب من جميع الأشكال السياسية والمشارب.

واستخدم الضباط الكثير من القوة لفرض إرادتهم على خصوم نظامهم الجديد، لكن القوة وحدها كانت مكلفة وغير كافية. وكانت بحاجة إلى استراتيجية سياسية أيضا، وسرعان ما اكتشف «ناصر» أن الشعبوية وسيلة فعالة لتأمين النظام الجديد وقوته. وكان لديه في هذا الكثير من المواد والوسائل. وكان البريطانيون قد احتلوا مصر منذ عام 1882، وسيطروا على البلاد من خلال ملكية فاسدة وحكومات عاجزة. وخلال هذه الفترة، كانت هناك ثورات ضد هذا الوضع المؤسف، واستياء متزايد تجاه النخب الذين ترأسوا نظاما مبني على عدم مساواة هائلة. وشدد «ناصر» على التأثير الخبيث للقوى الخارجية، وبالتالي عدم الثقة بالأجانب، والنظام السياسي المزور والفساد السابق، وتوجهت القيادة الجديدة بالخطاب الحماسي نحو الظهير الشعبي الضخم من بسطاء ​​المصريين. ولعب هو وزملائه الضباط الأحرار على أصولهم المتواضعة ظاهريا، على الرغم من أن أكثر من اثني عشر أو نحو ذلك منهم ترجع أصولهم إلى الطبقة المتوسطة أو العليا.

وفي يوليو/تموز عام 1956، قام «ناصر» بتأميم قناة السويس التي كانت تحت السيطرة البريطانية منذ عام 1875، عندما أجبر الخديوي «إسماعيل» على بيع حصص البلاد لتسوية الديون المستحقة للبنوك الأوروبية، واعدا باستخدام العائدات لجعل مصر عظيمة مرة أخرى. وكان هذا التحرك منطقيا، نظرا لأن الأجانب كانوا يستفيدون من الممر المائي الحاسم في مصر، وأعلى ذلك من سمعة ناصر كقوة وطنية بارزة، ولا تزال القناة عنصرا أساسيا في الأساطير الوطنية في مصر.

كما بنى «ناص»ر جدارا مجازيا داخل الأمر الذي زاد من الضغط السياسي والاجتماعي والاقتصادي على الناس الذين كانوامصريين تماما، لكنهم كانوا مع ذلك من الغرباء في الخطاب القومي المصري. وفي الوقت نفسه، أدت موجات منفصلة من التأميم إلى نزع ملكية العديد من الممتلكات من مالكيها، الأمر الذي أجبر المصريين من أصل يوناني وإيطالي وفرنسي للهجرة من البلاد، بما في ذلك معظم يهود مصر المتبقين الذين لم يكونوا قد هربوا بالفعل إلى (إسرائيل) أو أوروبا. وفي الولايات المتحدة المعاصرة، يتم الآن إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون أمريكيا، من خلال المناقشات حول الهجرة، ويتم طرح أفكار تعطي مكانة متدنية للقوقازيين وغير المسيحيين، مع الدفع بأفكار مثل وجوب إجبار الناس الذين لا يستوفون هذه المعايير لمغادرة البلاد.

بعد «ناصر»

وبعد وفاة ناصر عام 1970، جاء السادات إلى السلطة. وأخذت صورته تتألق في الغرب بعد زيارته للقدس في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1977، والتي أدت إلى اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية مع (إسرائيل)، فضلا عن سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي أدت إلى عودة كاملة للمشاريع الخاصة في مصر. ومع ذلك، اتبع «السادات» استراتيجية سياسية قد تكون مفيدة للأميركيين الآن.

وبغية التفوق على منافسيه وتأمين منصبه كرئيس، أقام السادات علاقة متبادلة مع جماعة الإخوان المسلمين، حيث أتاح لهم الفرصة لترويج أجندتهم الأخلاقية مقابل الدعم السياسي. ولم يكن الإخوان مطلقا يشبهون المتطرفين البيض والقوميين البيض الذين خصهم الرئيس «دونالد ترامب» بالرسائل في خطاباته طوال حملته وحتى الآن في رئاسته، لكن أسباب علاقاته معهم تشبه إلى حد كبير علاقة السادات بالإخوان.

في نهاية المطاف لم يكن «الرئيس المؤمن» قادرا على الوفاء بالتزاماته الدينية وتوقعات الإخوان - ومصر أيضا. على مدى العقود التالية تمكن الإخوان من وضع شروط للنقاش حول قضايا متنوعة مثل الفنون والأدب والتعليم والسياسة الخارجية والهوية. تعديل اللغة والمشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة يأتي في الرأي.

وعلى الرغم من أن الأصولية الدينية ليست شيئا جديدا في أمريكا، فقد أصبحت جزءا أكثر بروزا في الخطاب السائد. وقد أعلنت مؤخرا مستشارة الرئيس «ترامب» الروحية، «بولا وايت»، أن معارضيه كانوا «يقاتلون يد الله». وقد واجهت عاصفة من الانتقادات من اللاهوتيين وغيرهم، لكن ليس من الطبقة السياسية خوفا من رد فعل عنيف من قاعدتها الدينية. وفي مصر، كان القادة غالبا ما يضطرون إلى تلبية مطالب القاعدة الإسلامية، مهما كانت العواقب، للأسباب نفسها على وجه التحديد. وقد أدت تلك المواقف إلى تراجع ديناميكية المجتمع، وأنتجت حرب ثقافية غير قوضت من طاقة البلد الذي يتمتع بثروة هائلة من رأس المال البشري. فهل هذا ما يريده الأمريكيون؟

وقد تكون هناك أسباب وجيهة للمصريين للإعجاب بناصر والسادات، على الرغم من أن هذا الأخير لا يزال أقل شعبية بكثير. فقد كانت أعوام عبد الناصر لحظات من التمكين، وكانت فترة السادات فترة من الانتصار الجزئي والاستعادة الجزئية لسيادة مصر. وكان من المفترض أن تستعيد هذه الأحداث العظمة المفقودة في مصر، التي يستحقها المجتمع الذي ورث الحضارة الفرعونية. ومع ذلك، في سياسات القادة الضيقة، كانوا يتلاعبون بالهويات، ويبثون النزعات القومية، ويزرعون الانقسامات. والنتيجة هي مصر التي عانت من الاختلال والانحدار من أزمة إلى أخرى، والتي أصبحت غير قادرة على حل مشاكلها، لأن المجتمع أصبح مستقطبا للغاية، وسادت فيه عدم الثقة والسخرية، وأصبح العنف شيئا محتملا طوال الوقت. وما لم يكن الأمريكيون حذرين، فإن واقع مصر الحالي قد يكون مستقبل بلادنا.

المصدر | ستيفن كوك - صالون

  كلمات مفتاحية

مصر أمريكا ناصر ترامب السادات السيسي