مسألة عودة الشرعية في مصر

الخميس 14 سبتمبر 2017 02:09 ص

بعد مرور أربع سنوات على إزاحة الرئيس محمد مرسي في مصر، شهدت مسألة شرعيته جدلا سياسيا كثيرا، وظلت مسألةً خلافية بين أطراف المعارضة في مصر والمنفى. وهنا تبدو أهمية مناقشة التداعيات التي لحقت بالأداء السياسي لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، ومدى قدرتهم على التلاقي على مفهوم مشترك لعودة الشرعية، وذلك من وجهة أنها ليست فقط مفهوماً قانونياً، ولكنها أيضا إطار للتفاعل بين المؤسسات السياسية والحزبية والحركات الاجتماعية.

وبشكل عام، لا تقتصر دراسة مسألة الشرعية على التصرفات اللاحقة على الانتخابات في العام 2012، لكنها ترتبط أيضاً بعملية التأسيس لقرار المشاركة، حيث إن مشروعية هذا القرار، والوعي بتداعياته، وثيقة الصلة بنزاهة الممارسة السياسية ومرونتها.

وهنا تبدو أهمية تحليل سياسات الإخوان المسلمين منذ مارس/ آذار 2012، باعتبارها مرحلة شهدت عمليات لتأسيس سلطة رئاسة الدولة، والمراحل التي مرت بها حتى الوقت الراهن، وهو سياقٌ ارتبط بالجدل حول مسألة عودة محمد مرسي إلى السلطة تعبيرا عن الشرعية السياسية.

 

المؤسّسية في صنع القرار

صدر قرار مجلس شورى الإخوان في 31 مارس/ آذار 2012 بالتقدم بمرشح لرئاسة الجمهورية، وتفويض مكتب الإرشاد، بالتنسيق مع المكتب التنفيذي لحزب الحرية والعدالة، باتخاذ الإجراءات التنفيذية ومتابعتها. وقد أسست هذه الصيغة لتداخل اختصاصاتٍ انعكس على المرحلة اللاحقة، ليس فقط لتسمية مرشحين لانتخابات رئاسية، ولكن لترشيح محمد مرسي عن الحزب، على الرغم من رفض هيئته العليا الدخول في هذا المضمار.

هنا، يمكن القول إن البيان المشترك للحزب والجماعة (8 إبريل/ نيسان 2012) انعكاس لقرار مجلس الشورى، لكنه على الرغم من انضواء كيانات "الحرية والعدالة" تحت القرار، تظل عيوب المؤسسية في ترشيح رئيس الحزب قائمةً وبعيدة عن المعالجة على مدى الفترة اللاحقة، لعل هذا الجانب يثير مشكلةً لازمت مواقف جماعة الإخوان، حيث كانت أسيرةً لمركزية فردية، لم تمكّنها من مجاراة الأحداث، أو تخيل التداعيات السياسية.

انعكست هيمنة النمط الفردي على عملية بناء شبكات السلطة خلال عامي 2012 و2013، حيث تتضح علاقات القرابة وتشابك المصالح المالية والاقتصادية والولاء وغياب المؤسّسية، وهي حالة كانت في الطريق نحو تمديد علاقات السلطة والثروة بشكلٍ يعوق تطور الثورة أو النظام السياسي، وهو ما يعني أن السلطة وشبكاتها كانت في اتجاه إعادة إنتاج معضلات (واختلالات) العلاقة بين الدولة والمجتمع، والسلطة والثروة.

وبالتالي، يمكن القول إن العوامل التي ساعدت على تباطؤ أداء السلطة وإزاحتها لا ترتبط بالقدرات الذاتية، بقدر ما هي انعكاس لتشوهات إداريةٍ، بشكل زاد من توقعات وضع التجربة على مسارٍ بعيد عن التحول والانتقال إلى نظام سياسي ديمقراطي.

وبغض النظر عن العيوب في قرار ترشيح محمد مرسي، فقد استند التداخل بين مكتب الإرشاد ورئاسة الدولة إلى تفويض "مجلس شورى الإخوان"، وليس عبر مؤسسات الحزب.

وهنا يمكن تفسير الخلاف حول المطالبة بعودة الشرعية، تحمل في طياتها دعوة إلى عودة الجماعة إلى الحكم، وليس فقط عودة مرسي، وهو ما شكل قلقاً في السنوات الماضية، منع من تطوير التحالفات السياسية، وقلل من فرص الولوج إلى تهدئة الأزمة السياسية. فغياب التلاقي حول تعريف استعادة الشرعية أضعف احتشاد المعارضة واصطفافها، كما لم ينجح الاقتصار على العودة الرمزية في طمأنة الأطراف الأخرى.

حاولت جماعة الإخوان المسلمين توضيح الأبعاد القيمية لعودة الشرعية، بالتأكيد على أنه ليس سعياً إلى المناصب، غير أن عدم تلاقي المعارضة على معنىً واضح لها ساهم في تزايد الجدل حول تعريف أهمية العودة الرمزية والمؤقتة للشرعية.

وهنا يمكن الإشارة إلى حدوث تحولٍ في الموقف من استعادة الشرعية، خلال الأربع سنوات الماضية، من كونه عامل تقاربٍ وتضامن إلى مسألة خلافية وغير شعبية، ما يطرح الثقة في سلامة تقييمات المعارضة في المنفى، وقدرتها على التعامل مع الوضع السياسي في مصر.

 

المعارك الخاسرة للأزمة الدستورية

شهدت الأيام الأولى خلافاً مبكّراً بين سلطات الدولة، فقد استهل الرئيس محمد مرسي فترته بإصدار قرار جمهوري (11/2012) بعودة البرلمان، لكن تصدّي المحكمة له جعله يقبل باستمرار بطلان مجلس الشعب. وفي محاولة أخرى، عرض سعد الكتاتني، بصفته رئيس مجلس الشعب، النزاع على محكمة النقض، لتقضي بعدم الاختصاص. انتهت هذه المرحلة من النزاع في وقت قصير، بعد صدور ثلاثة قرارات في الفترة (8 ـ 11 يوليو/ تموز 2012)، حيث استطاع القضاء حسم الخلاف القانوني، فيما لم يتمكن الرئيس من تحقيق أهدافه.

ومع تقدم النزاع بشأن الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى، اتجهت جماعة الإخوان المسلمين إلى اتخاذ إجراءين تجاه المحكمة الدستورية، الأول إصدار إعلان 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 لوقف نظر دستورية القانون رقم 79 (15 يوليو/ تموز 2012). والثاني حصار المحكمة الدستورية في أول ديسمبر/ كانون الأول إجراءً إضافيا لوقف نظر قضية حل مجلس الشورى.

وفي سياق تداعيات إعلان نوفمبر، دعت جماعة الإخوان المسلمين إلى مظاهرة تأييد للرئيس، عند القصر الجمهوري في 23 نوفمبر، لشرح أسباب إصدار الإعلان الدستوري. وخلال هذا التجمع، أوضح الرئيس أن هناك ممارسات تهدّد مسار الثورة، وتسعى إلى تقويض السلطة. وفي أول ديسمبر، شاركت مع الحركة السلفية في "مليونية الشريعة والشرعية" (ميدان جامعة القاهرة)، لتظهر حالة استقاطاب أيديولوجي إسلامي ـ علماني، تزيد من حدة الأزمة الدستورية.

ترافق الجدل حول الشرعية، لأول مرة، مع بدء حصار المحكمة الدستورية، فمع اشتداد النزاع بين السلطتين، التنفيذية والقضائية، اتجه محتجون إلى التظاهر والاعتصام أمام مقر المحكمة الدستورية، ما أدى إلى إصدار قضاة المحكمة بياناً يفيد بتعليق العمل حتى يتوفر المناخ النفسي والسياسي الملائم لنظر القضايا، وهو ما ترافق معه إغلاق المحاكم وامتناع نوادي القضاة عن الإشراف على الاستفتاء، بشكل يعبر عن عمق أزمةٍ سياسية ألقت بظلالها على مسار العلاقة بين سلطات الدولة. لم يتدخل رئيس الدولة لحماية المحكمة، ما ساعد على استمرار الأزمة حتى تعديل الإعلان الدستوري في 8 ديسمبر.

وبينما أدى صدور إعلان 12 أغسطس/ آب إلى ترتيب بعض الأوضاع داخل السلطتين التنفيذية والتشريعية، فإن صدور إعلان نوفمبر أثار أزمة بين السلطتين التنفيذية والقضائية، حيث اتجهت المحاكم إلى تعليق العمل، ووقف انعقاد الجلسات، ما شكل تحدياً للسلطة التنفيذية، وأرسى لسلسلة من الأزمات الدستورية.

ففي النصف الأول من 2013، نشأت أزمة أخرى، على خلفية إصدار الرئيس قانون الانتخابات والدوائر الانتخابية (21 فبراير/ شباط 2013)، بعد مراجعة البرلمان مباشرة، ومن دون العودة إلى الدستورية، وقد استندت المحكمة الإدارية إلى المادة 177، الخاصة بالرقابة الدستورية السابقة، لوقف الدعوة إلى إجراء الانتخابات التشريعية، ليبدأ مجلس الشورى مناقشة مشروع قانون آخر في إبريل/ نيسان 2013، لينتهي به المآل بعدم الدستورية.

 

قانون السلطة القضائية والمواءمة السياسية

وعلى الرغم من تفاقم الأزمات السياسية، وتعطل انتخابات مجلس النواب، بدأ مجلس الشورى فى إجراءات مناقشة قانون السلطة القضائية (مايو/ أيار 2013)، ما أحدث أزمة بين سلطات الدولة.

هنا، يمكن ملاحظة مدى انعزال مجلس الشورى عن السياق العام للدولة، وتصرف بشكلٍ لا يراعي حالة النزاع بين السلطات، في ظل غياب السلطة التشريعية الأصيلة، ليأخذ النزاع منحىً جديداً في 2 يونيو/ حزيران 2013، عندما أصدرت المحكمة الدستورية حكما ببطلان عضوية ثلث أعضاء مجلس الشورى المنتخبين، وتأجيل حله إلى حين انتخاب مجلس النواب، وفق المادة 230 من الدستور، وهو ما يجعله من دون صلاحيات حقيقية، وبحاجة لإعادة تشكيل.

وأدت هذه التطورات إلى إضعاف مجلس الشورى باعتباره سلطة تشريعية، بما لا يمكّنه من إصدار تشريعاتٍ تغير الوضع السياسي.

أدى قرار المحكمة الدستورية ضد "مجلس الشورى" إلى غل يده عن النظر في التشريعات فعلياً، فعلى الرغم من ورود مشاريع القانون بالمراحل الشكلية، أعلن وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية، حاتم بجاتو، فى بداية يونيو/ حزيران 2013، عن تأجيل مشروع قانون السلطة القضائية. وبهذا المعنى، يعكس وقف مناقشة مشروع القانون رغبةً في تجنب الجدل بشأن مشروعية المجلس.

ثمة وجهتا نظر بخصوص التعامل مع قانون السلطة القضائية، فبينما يرى القضاة أن تعديل القوانين المكملة للدستور يتطلب وجود المجلسين التشريعيين، باعتبار مجلس النواب صاحب الاختصاص الأصيل، فيما دور مجلس الشورى يقتصر على القوانين المتعلقة بحالات الضرورة لتسيير شؤون الدولة، وأن الاقتراح يكون من الأفضل من رئيس الدولة أو مجلس الوزراء، وليس من أعضاء تشريعيين، فيما تراه الأحزاب السياسية الداعمة للتعديل اختصاصا أصيلا للسلطة التشريعية.

وبغض النظر عن حجّية أي من الطرفين، كانت الظروف السياسية غير ملائمة لتناول التشريعات المتعلقة بهيكل الدولة، وخصوصاً أن الدعاية المرافقة لتعديل القانون روّجت لعزل القضاة عبر خفض السن، وإحالة بضعة آلاف من القضاة إلى المعاش.

من الملاحظ أنه على الرغم من بدئها النزاع الدستوري، فإن الحكومة خسرت كل المنازعات القانونية، حيث يشير الاتجاه العام إلى وجود نقص واضح بإلمام السلطتين، التنفيذية والتشريعية، بالمبادئ الدستورية للعلاقة بين السلطات، وهو ما اتضح في عدة حالات: صدور قانون الجمعية التأسيسية (79) بعد تشكيلها ومباشرة عملها، تجاوز حكم بطلان مجلس الشعب، أو في إحالته إلى محكمة النقض، إصدار قانون الانتخابات، فهذه التصرفات تعكس جانبين.

الأول أنها تثير الجدل بشأن نقص القدرات القانونية للحكومة وجماعة الإخوان المسلمين.

والثاني أنها تتعلق بالانعكاسات السياسية لمخاطر تنازع سلطات الدولة، وتأثيره على تفكك السلطة التنفيذية وانقسام التشريعية. فرغم إلغاء القانون (79) في 2 يونيو/ حزيران 2013، فإنه كان خطوةً لإضعاف حجية دستور 2012، وتصعيد الجدل حول تعديله.

 

اهتزاز مرجعية دستور 2012

ظلت مسألة الدستور تشكل محور الاهتمام السياسي للإخوان المسلمين، وبعض الأحزاب الإسلامية، حيث انشغلت في الفترة، سبتمبر/ أيلول - ديسمبر/ كانون الأول 2012، بالانتهاء من صياغة الدستور، على الرغم من عقباتٍ عديدة واجهت الجمعية التأسيسية. وبعد صدور الإعلان الدستوري، انصب دور الجمعية على إنجاز مشروع الدستور، وتسليمه إلى رئيس الدولة قبل انعقاد جلسة المحكمة الدستورية في 2 ديسمبر/ كانون الأول لطرحه للاستفتاء الشعبي، لتفادي صدور قرار بحل الجمعية.

لا يمكن فهم الأزمة بين المحكمة الدستورية والسلطة التنفيذية بمعزلٍ عن مسار صياغة الدستور، فقد دخلت الجمعية التأسيسية، ومنذ تكوينها، في أزمة سياسية، حيث أعلنت أحزاب عن الانسحاب من الجمعية، ثم توالى إعلان هيئات أخرى كالأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية والمحكمة الدستورية وشخصيات مستقلة والكنائس الانسحاب.

في التشكيل الثاني، تكرّرت حالات الانسحاب، ما شكّل الجذر الأساسي للخلاف بشأن الدستور، على الرغم من حصول الاستفتاء على موافقة 64% من الأصوات، فقد ارتبط الخلاف بكيفية صياغة الدستور ومسارها، وليس بمعدل تأييده الانتخابي، وهي المشكلة التي ترجع إلى الخلاف بشأن التفاهم على المبادئ فوق الدستورية في 2011. وبهذا المعنى، لم تتوفر القوى الدافعة لتحويل الدستور إلى مشروع وطني، أو عقد اجتماعي، بسبب حدة الخلاف على المضي في مساره.

وبشكل عام، ورث دستور 2012 مؤسساتٍ لم تنشأ في ظله، حيث رئاسة الدولة والجهة التشريعية (مجلس الشورى)، وهي ليست مؤسساتٍ هامشية، بل تشكل جزءاً مهماً من السلطات الدستورية في الدولة، وهذا ما دفع إلى تمديد الخلاف إلى فترة ما بعد الدستور. وقد ساهمت هذه الصيغة، إلى جانب أنها عزّزت النزاع الدستوري في الفترة اللاحقة، في اهتزاز شرعية السلطات.

لعل أهم نتائج هذه الأزمة تمثل في ظهور الجدل حول شرعية الرئيس مرسي، حيث انتقل الخلاف بين الحكومة والمعارضة على قضايا فرعية إلى المطالبة بإسقاط الحكومة، ما أثار النقاش بشأن إعادة تأسيس السلطة، والتفاوض حول مرحلة انتقالية جديدة، وهي حالة لم يحسمها صدور الدستور الجديد، فقد ظهرت سريعاً مطالب تعديله، ولعل قبول الحكومة مناقشة هذه المطالب عبر الحوار الوطني كان يعكس إدراكها لطبيعة الأزمة السياسية، لكنها، من جانب آخر، قللت من مركزية دستور 2012 في الحياة السياسية.

ورغم إدراك أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تعمل في بيئةٍ غير مواتية، فإن سياساتها ساهمت في دفع الأطراف الأخرى إلى تبني مواقف أكثر حدّة، خصوصاً بعد صدور الإعلان الدستوري، حيث انسحبت من كل المؤسسات السياسية، والدعوة إلى إسقاطها والدعوة إلى تشكيل مجلس رئاسي.

وقد مثلت الاحتجاجات حول قصر الاتحادية في 5 ديسمبر/ كانون الأول ذروة المعارضة للرئيس، وفتحت الطريق للاقتراب من التفكير الجدي في إطاحة السلطة، وظهور توجهات عنفية ضد الإخوان المسلمين/ الحرية والعدالة، على مستوى الدولة، ولم يسلم منها المقر الرئيسي للجماعة، وهي أحداث لم يكن ملائماً معها مشاركة كل الأطراف في الحوار السياسي.

كشفت الأزمة السياسية في مصر عن وجود فجوة مزدوجة، فمن ناحية كشفت عن محدوية إدراك جماعة الإخوان المسلمين والمعارضة لطبيعة الدولة وسلطاتها. ومن ناحية أخرى، مع طول فترة المعارضة في المنفى، ظهر اختلافٌ في موقفها تجاه مسألة الشرعية. وعلى الرغم من هذه التغيرات، لم يحدث تقييم للأداء السياسي، ومدى اقترابه من استعادة الشرعية أو الديمقراطية، وهو ما يثير التساؤل عن العيوب التنظيمية والفكرية التي تفسر الفقدان السريع للسلطة، وتراجع المعارضة.

 

الشرعية في يونيو 2013

يمكن القول إنه على الرغم من شدة الأزمات التي اندلعت بين السلطات الثلاث، لم تظهر حلول حاسمة تنهي الخلاف والتصدّع السياسى، فلم ينقض يونيو/ حزيران 2013 من دون ترك مؤسسات الدولة في حالة متداعية ومقسّمة، كان أهمها أنه في ظل قرار تفويض وزير الدفاع بالتعبئة العامة (356/2012) فقد الرئيس محمد مرسي الكثير من صلاحياته، ولم يعد يتمتع بسلطة فعلية، وظهر فراغ في السلطة، بعد اهتزاز مشروعية مجلس الشورى، ومع عدم تحول المشروعية الانتخابية لشرعية فعلية.

كانت ذروة الصراع السياسي في إعلان اللجنة العيا للانتخابات عن عقد جلسة (26 يونيو/ حزيران 2013) للنظر في الطعن على قرار إعلان نتائج انتخابات الرئاسة، وهي من مسارات تفكيك الشرعية، لكن تصدّي الرئيس محمد مرسي للجنة العليا، دفعها إلى التنحّي عن نظر الطعن لاستشعارها الحرج، وهو ما لم يغيّر من مسارات الأزمة.

كانت المرة الأولى التي يستخدم فيها الرئيس مرسي وجود شرعية دستورية ملزمة للجميع في خطاب 26 يونيو، عندما أشار إلى وجود تهديد للثورة والسلطة، وتأثير سلبي للاحتجاجات على الاقتصاد، غير أن الاتجاه العام لخطاب الرئيس كان يميل إلى التهدئة مع مؤسسات الدولة، ومحاولة امتصاص الحراك السياسي للمعارضة، لكنه في صورة متماثلة مع خطاب الرئيس الراحل أنور السادات (سبتمبر/ أيلول 1981) ركز على أن المشكلة الأساسية تكمن في وقوف النظام السابق (حسني مبارك) وراء المشكلات التي تمر بها الدولة، ولم يأخذ في اعتباره عدم حدوث تغير في أجهزة الدولة.

كان التفاوت بين الخطاب والواقع يشير إلى فجوة في النظام السياسي القائم، وبينما أدت المشكلات اليومية إلى تعطيل السلطة ومنعها من مزاولة صلاحياتها، عبّرت دعوات "إغضب يا ريس" عن حماسة غير مفهومة، فعلى مدى يتجاوز الساعتين، لم يتصدّ الخطاب لأصل المشكلة، أو طرح حلول جذرية، لكنه تناول تعديل الدستور، وتكليف المحافظين بإقالة المتسبّبين في الأزمات.

وساد الخطاب حديث عن خصومه في قضايا ثانوية، كالفساد والتهرّب الضريبي، وظهر كأنه برنامج انتخابي، فيما كانت الدولة تعاني من انقسام، وعلى شفا انفجار سياسي، وهي حالة تعكس الإدراك الجزئي للأزمة السياسية، حيث تم اختزالها في ترتيب إجراءات الانتخابات التشريعية، في حين أن الأزمة مع الرئاسة. ولذلك لم ينجح الخطاب في امتصاص الاحتجاجات أو تهدئتها.

وفيما اعتبر أن من الإنجازات إقامة علاقات مدنية ـ عسكرية متوازنة تخدم التحول الديمقراطي، كان من اللافت أن الرئيس محمد مرسي لم يأخذ بيانات القوات المسلحة على أي نحوٍ من الجدية، وليست هناك مؤشرات على إدراك مدى التهديد والتحدّي الذي يواجه سلطته، سواء بقبول انتخابات مبكرة، أو اللجوء إلى فرض سلطته. كلا الخيارين لم يحدث، ولم تكن المبادرات وقتها على مستوى الأزمة.

 

المعارضة.. والإخوان والتحالفات

شكل الخطاب السياسي في اعتصام ميدان رابعة العدوية الأساس للخطاب السياسي للمعارضة، والاستعادة السريعة والكاملة للشرعية، حدا أدنى للتطلعات السياسية. ولذلك غلب الطابع الثأري من دون الاهتمام بالبدائل السياسية لاحتمال الإخفاق في تحقيق أهداف الاعتصام والمعارضة فيما بعد. ووفق هذا المنظور، يمكن النظر إلى فترة الاعتصام وما بعدها تطويرا لحالة الاستقطاب أكثر منها مساعي لاسترداد المؤسسات المنتخبة.

ظهر الاستقطاب في كلمة المرشد العام، محمد بديع، عن أن وجود الجيش والإخوان المسلمين قوتين رئيسيتين، عسكرية واجتماعية في الدولة، يتطلب التفاهم حول مسألة الشرعية، وهي مقولةٌ حملت في طياتها تحدياً للمؤسسة العسكرية، بحيث شكلت أرضية الخطاب المنصّة فترة ما قبل فض الاعتصام، كما ظهر أيضاً في انحيازات الليبراليين وغيرهم ضد فكرة الاعتصام باعتبارها تعبيرا سياسيا.

خلال عامي 2014 و2015، ظلت تصريحات الإخوان المسلمين والمعارضة مفعمة بالثورية الجذرية الراديكالية وانتزاع الحرية. ولكن في الفترة اللاحقة، ظهر اختلافٌ في التغيير السياسي، ما بين الثورية التقليدية والبحث عن حل سياسي، لم تتجه المعارضة إلى حسم خياراتها. ولذلك ظهر اتجاهان، يتبنى أحدهما إسقاط الانقلاب عبر الثورة واستعادة الشرعية، ويتبنى الآخر إسقاطه عبر تحالفٍ واسع لا يشترط عودة مرسي.

وهو ما يثير النقاش حول الفجوة بين تطلعات المعارضة وواقعها السياسي، فعلى الرغم من المغالاة في الخطاب الثوري، تراكمت المشكلات التنظيمية للمعارضة، ما ساهم في انحسار فاعليتها السياسية والاجتماعية، مع وضوح انقسام "الإخوان المسلمين" في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2015، بحيث لم يتحسّن الأداء خلال السنوات التالية.

ويشير الاتجاه العام إلى بيانات جماعة الإخوان والمعارضة في المنفى إلى حالة متباينة؛ ركود فكري وطموح أيديولوجي، فخلال هذه السنوات ارتكزت الطروحات السياسية على استعادة الشرعية وإسقاط الانقلاب، سواء عبر ثورة أو نضال قانوني وسلمي، من دون وضوح المحتوى التغييري، أو سياسات إسقاط النظام.

هنا يمكن الحديث عن خفّة الحمولة الثورية بصورةٍ تفسّر انحسار الحراك الشعبي، وتعدّد الكيانات المعارضة المتناقضة.

ومن اللافت، أنه على الرغم من تدهور فاعلية معارضة المنفى، كانت بيانات الإخوان المسلمين تشير إلى وجود حالة عنفوان ثوري وحراك ميداني متصاعد وتضافر المصريين في الداخل والخارج، قد تكون هذه الدعاية متأثرة بتبنّي "الثوري المصري" (القريب من الإخوان) خطاباً راديكالياً حول مسألة الشرعية، إذ يعتبرها هدفا أصيلاً، لكنه لم يحقق أي إنجاز سياسي أو "ثوري" خلال السنوات الثلاث. فبجانب انقساماته التنظيمية، لم يتمكّن "المجلس الثوري" من بناء حراك سياسي.

كان الأداء الضعيف لحركة غلابة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) كاشفاً عن التشوهات الجوهرية في البنية الفكرية والتنتظيمية وسوء التقدير السياسي. هذه الحالة واحدةٌ من نماذج العمل السائدة والمفرطة في الآمال الحالمة، على الرغم من انحصار تأثيرها بنطاق مقرّات الاجتماع والبيانات الصادرة عنها.

وبشكل عام، يبدو خطاب الإخوان المسلمين غير متناسق في التعامل مع الجيش، فقد يكون من المفهوم المطالبة بعودة الجيش إلى ثكناته من وجهة حياد دوره في العملية السياسية، غير أن إشارة "المجلس الثوري" إلى "تحرير مصر من احتلال العسكر" (المجلس الثوري، 14 يونيو/ حزيران 2017) تعكس انفراط سيطرة "الإخوان" على مفردات الخطاب السياسي، ما يتيح الفرصة لصراع مفتوح مع مؤسسات الدولة.

قد يكون سوق الأمثلة كاشفاً عن مدى انفلات التفكير، وخصوصا لدى الإشارة إلى تجارب المصريين في التحرّر من الغزوين الفرنسي والبريطاني، وهي مقاربةٌ لا تميز بين الخلاف مع مؤسسات الدولة ومناهضة الاحتلال الأجنبي، وهي توجهات تؤسّس، على مستوى التفكير ومن دون وعي، لصراعٍ مزمنٍ تنعكس آثاره على المجتمع.

أثرت هذه التبيانات على موقع جماعة الإخوان المسلمين في التحالفات السياسية، فبعد مناقشاتٍ طويلة، دخلت جماعة الإخوان "الجبهة الوطنية"، من باب التوافق على الحد الأدنى لاستعادة الديمقراطية في عملية اصطفاف وطني. وعلى الرغم من ظهور جماعة الإخوان ضمن "الجبهة الوطنية"، رجع خطابها السياسي (بيان بشأن شرعية الرئيس، 4 يوليو/ تموز 2017) إلى مفردات كلام المجلس الثوري المتطلعة إلى التغيير الجذري، وصولاً إلى "إسقاط الانقلاب العسكري واستعادة الإرادة الشعبية".

وقد يكون من المفهوم أن الجماعة تعبر عن خصوصيتها السياسية، لكن مشاركتها في تحالفات متصارعة (المجلس الثوري والجبهة) يعكس اهتزاز موقفها، وبصورة تكشف أن المشاركة في التحالفات أو بناءها صورة احتفالية، لا تخط مساراً يفتح آفاقا سياسية. تأرجح الإخوان بين تحالف الجبهة الوطنية والمجلس الثوري هو تعبير عن القلق بين الإصلاحية والراديكالية وانعكاس لغياب تصور عن أولوياتٍ وقتية أو استراتيجية.

 

رافعة الشرعية

ومن وجهة التكيّف السياسي، لم يؤد امتناع المعارضة و"الإخوان المسلمين" عن المشاركة في مسار ما بعد يوليو/ تموز 2013، لتحقيق ميزاتٍ سياسية، سوى الاستقرار على مقاطعة النظام القائم، لكنه لم يعزّز قدراتهم السياسية في طرح بدائل أخرى، فمن جهةٍ لم يتمكّنوا من تكوين إطار سياسي بديل. ومن جهة أخرى، ظلوا معزولين عن الترتيبات الجديدة، والتي تجاوزت الجدل القانوني حول توصيف بيان يوليو انقلابا أو ثورة أخرى.

انعكس هذا الوضع على عزلة المعارضة في الخارج، وتراجع تأثيرها على السياسة الخارجية للدولة، حيث تقتصر اتصالاتها على منظمات حقوق الإنسان، وثمة قلق من حدوث تحول المعارضة للحفاظ على مكتسبات وقيم مضافة، لا علاقة لها بـ"الثورة".

وظهرت أزمة تكيف رئاسة الدولة مع أجهزة الدولة، سواء في السياسات العامة أو الأمنية والدفاعية، مترافقة مع اهتزاز الخطاب السياسي للرئاسة و"الإخوان" بين الصدام والتقارب.

لم يكن الصدام مع السلطة القضائية العلامة البارزة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 إلى إبريل/ نيسان 2013، لكنها تزامنت مع تأرجح مواقف الرئاسة تجاه المؤسسة العسكرية، ما بين رفض أي دور سياسي لها في الحوار الوطني ومحاولة التقرب منها في يونيو/ حزيران 2013.

تعطي هذه التصرفات انطباعاً بأن منظور الإخوان المسلمين للسلطة وإدارة الدولة لم يرتكز على توجهات مستقرّة، حيث دار بين التشدد والتراجع من دون خريطة سياسية. اتضح ذلك في تبني الإعلان الدستوري وقت صدوره، والقبول لاحقاً بتعديله، وبغض النظر عن الجدل حول تحقيق أهدافه في حماية الجمعية التأسيسية، فإنه أطلق الشرارة الأولى لطرح مسألة شرعية الرئيس ضمن المطالب السياسية، ما شكّل تحدياً أساسياً على مدى الفترة اللاحقة.

في الوقت الراهن، يقف السياق السياسي للمعارضة حائراً أمام أسئلة المستقبل، عن الدور وسياسات التصدي للمشكلات الراهنة، فرغم مرور أربع سنوات لم تتضح خيارات "الإخوان" والمعارضة المصرية تجاه المستقبل السياسي للدولة، وركّزت على مطالب هي بطبيعتها احتجاجية.

وبينما ركزت على المطالب التقليدية لإبعاد الجيش عن السياسة، ظلت مطالب استعادة الشرعية خاليةً من أي برامج أو سياسات، وذلك عندما فسّرت موقفها بالاستعادة المؤقتة الرمزية تعبيرا عن إرادة الشعب، من دون الاقتراب من واقعية هذه الصيغة ومدى تأثيرها في المشهد السياسي، وهو ما يعكس أن فريق الشرعية يمر بمشكلةٍ هيكليةٍ وفكرية، لم تكن تسعفها في الماضي والحاضر لإدارة عملية تغيير سياسي أو اجتماعي.

ما يمكن قوله أن الإخوان المسلمين والمعارضة ليسوا بصدد مسار تحول ثوري، بقدر ما يواجهون أزمة تكيّف ممتدة، فعلى الرغم من تغير الظروف والانتقال من السلطة إلى المعارضة، لم يحدث تطور، سواء في اتخاذ القرار أو في بناء السياسات، فمن حيث الاتجاه العام لم تعمل تجربة المعارضة المصرية على تطوير البنية الساسية، وتوفير شروط الديمقراطية التنظيمية، بحيث يمكن القول إن غياب الديمقراطية الداخلية والمحاسبة ساهم في استنساخ نظام سياسي هشّ ومرتبك لم يصمد أمام أعباء التحول السياسي.

وهي عوامل ساهمت في تفكيك الشرعية السياسية، ثم تقويضها بحلول يونيو/ حزيران 2013، ومن ثم، لم يكن مفهوماً تمسك الرئيس مرسي بمنصبه، رغم فقدانه سلطة الأمر الفعلية.

وهنا، ظهرت مقارباتٌ تقوم على النمط القياسي للنظم الديمقراطية تفسيرا لإثبات الشرعية، وذلك على الرغم من أن التجربة المصرية هي في مرحلة جنينية، لا يتوافر فيها توازن السلطات واستقرار الأعراف الدستورية. كما أن محاولات استعادة السلطات الدستورية شهدت تراجعاً واضحاً على مدى أربع سنوات، على الرغم من التكلفة السياسية العالية. وبالتالي، كانت الخيارات التفاوضية المسار الأفضل لتسوية الأزمة السياسية.

لم يكن تراجع روافع "الشرعية" المظهر الوحيد للأداء السياسي. وتكشف مراجعة الخطاب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين أن اختزال مفهوم الشرعية في نتائج الانتخابات يفسّر، جزئياً، النظر إلى المشروعية الانتخابية كمسألة عقدية، على الرغم من ارتباطها بمؤشراتٍ أخرى، في مقدمتها القدرة على فرض السلطة أو استعادتها، وهي شروطٌ لم تتوافر، كاملةً، وقت وجود الرئيس مرسي في السلطة.

لذلك، يفقد الإصرار على هذا النمط من التناول مصداقيته، وخصوصاً في ظل غموض مآلات أداء ما تبقى من المعارضة في المنفى، وميلها إلى التعامل مع مسألة "الشرعية" نوعا من التجارة غير السياسية، وهو ما يتطلب استدراك الحل السياسي والتفاهم مع الدولة على مرحلة أخرى.

* د. خيري عمر خبير بسياسات أفريقيا والشرق الأوسط أستاذ العلوم السياسية بجامعة صقريا

المصدر | د. خيري عمر | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

محمد مرسي الإخوان المسلمون الشرعية السياسية حزب الحرية والعدالة الانتخابات المصرية الحل السياسي