«استهلال»: هوليود تتصور الجنة مصارعة أعماق النفس وأحلام التوريث!

الأربعاء 11 أكتوبر 2017 02:10 ص

فيلم «Inception» معروف تجاريا عربيا بـ«استهلال»، وإن رأى البعض أن أقرب ترجمة حرفية لاسم الفيلم؛ بحسب سياقه، هي «ازدراع»؛ والعمل السينمائي الذي نتناوله بالنقد الفني اليوم اعتبره البعض واحدا من أفضل الأفلام السينمائية ليس في عام إنتاجه (2010) بل في في تاريخ السينما الغربية لا هوليود وحدها.

الفيلم الأمريكي أخرجه وكتب السيناريو والحوار له «كريستوفو نولان»، ورغم أن الفيلم يمثل إجمالا عملا آخر مميزا لـ«نولان» بعد فيلم «الحب» الذي تناولناه الجمعة الماضية؛ إلا أن الإشادة الشديدة بفيلم  بخاصة من جانب متصدين عرب للنقد السينمائي يذكر بالمقولة الشهيرة: «للنجاح ألف أب وليس للفيلم أب واحد».

مما قيل في التعريف بالأجواء المصاحبة للفيلم أن «نولان» أبدع في كتابته على مدار 10 سنوات، وفي ذلك مبالغة شديدة، فحتى لو دارت فكرة الفيلم في ذهن مخرجه لعدة سنوات لا يستطيع كتابتها لأنها غير مكتملة؛ إلا أنه من العبث القول إنه كتب الفيلم في 10 سنوات.

تم إنتاج الفيلم بميزانية قدرت بـ160 مليون دولار وحقق إيرادات زادت عن 823 مليون دولار، وتم ترشيحه لـ8 جوائز أوسكار فاز منها بـ4 جوائز ونال جوائز أخرى قدرها البعض بـ26؛ وزاد آخرون فجعلوها 126 (!).

الإبداع في مخالفة النمط

تبدو التركيبة التي يعتمدها «نولان» في أفلامه تمتاز بالعمق والتوغل في التناول مما يقرب أعماله من المدرسة التعبيرية الفنية؛ التي تجيد في الفن التشكيلي والقصصي والسينمائي استيعاب الواقع ثم إعادة إخراجه فنيا من وجهة نظر المبدع حتى أن المتلقي والمتابع الفني اليقظ ليراقب الواقع يسري في مسام العمل الفني لكن في قالب مميز يجعله مطبوعا ومصهورا بروح صاحبه الفنان وبصمته المميزة إلا قليلا من تقصير مما ينتج عن الجهد البشري .

على أنه في عالم القصة السينمائية والتصوير والتقنيات المتعارف عليها في الفن السابع لا مجال لتحقيق التمايز الإجمالي إن لم يواكب المضمون التطوير في الشكل؛ بخاصة أن آلاف الأفلام أنتجتها هوليود قبل عام 2010، عام إنتاج الفيلم، وهي لم تترك مجالا من مجالات الحياة، أو حتى ما بعدها إلا حاولت تناوله؛ بالإضافة إلى حروب النجوم والكائنات المجهولة التي تهاجم الكون وتتصدى أمريكا لها، وساهم «نولان» نفسه في تلك الموجة بما قد نتعرض له قريبا.

فيلم «استهلال» واكبه تطوير في الشكل المعتاد بخلط الغرافيك وتقنيات الحاسب الآلي مع الصور الواقعية وفق رؤية وإن كانت جيدة إلا أنها مثلت نقطة ضعف وضحت بخاصة مع المقارنة بعناصر الفيلم الأكثر تفوقا.

حضارة المعاناة

في ظل حضارة استطاعت توفير جميع مستلزمات الراحة المادية لأفرادها، وفي قمة الحضارة الأمريكية يعيش «دوم كوب» أو (ليوناردو دي كابريو) كإنسان مميز في قدراته استطاع تنمية الجاسوسية لا لتتلصص على واقع الأعداء بل على خيالاتهم ورؤاهم خلال النوم، وعلى الفور ينقل خبراته إلى زوجته «مال» أو (ماريون كوتار)، فيبدأن في بناء عالم مواز للواقع الأمريكي الغربي حتى أنهما يصطحبان فيه الشقق التي أقاما فيها، وبيوت الطفولة، والأمر على هذا النحو أقرب إلى عالم الشبكة العنكبوتية أو الإنترنت، ولعل منشأ بناء بيوت الأحلام جاء عبر فكرة الإنترنت نفسها للمؤلف.

التجسس على الأحلام.. هذه الفكرة الجديدة على عالم السينما هي التي استطاع عبرها «نولان» بناء الفيلم كله، وذلك من خلال تطويرها، ونظمها في منظومة يتقبلها العقل إلى حد ما، فلا تعارض بين التفكير ومكونات الفيلم على الشاشة في الغالب، فالحلم يتم الدخول إليه عبر جهاز تم اختراعه خصيصا، ويتم تخدير الحالم لئلا يحس بتوصيلات الجهاز بينه وبين المتداخل أو المتداخلين معه على الخط، وحتى المؤثرات الطارئة على الحالم الرئيسي، الذي يتم التجسس عليه لها طرق علاج في الفيلم، من حدوث أصوات شديدة حوله أو ما شابه، بل إن الأمر تطور فاحتاجت الشبكة المتجسسة على الأحلام إلى «أريادين» (الكندية إلين بيغ) المختصة بالتصميمات ذات القدرة الفائقة على إنشاء المتاهات داخل الأحلام، وهي البديلة عن «مال» زوجة «كوب»، في الواقع والأحلام.

وداخل إطار التعمق في سيناريو الفيلم يأتي أكثر من عمق كلما دخلنا إلى أحداثه، والمشاهد يحتاج إلى ساعة من الأحداث التمهيدية حتى يدلف إلى الفيلم الذي يقع في قرابة ساعتين ونصف الساعة، فالبطل «كوب» متهم بقتل زوجته «مال»، وبالتالي مطارد من السلطات المحلية والفيدرالية، وهو مفارق بالإجبار لابنه وابنته، وزوجته كان تملكها هوس الخلد عبر فكرة بناء عالم الأحلام فبنت مع زوجها عالما خاصا بهما لمدة 50 عاما، بعمر الأحلام المخالف للواقع، ثم سبقته إلى العالم الخاص بهما بقتل نفسها، وسابق إحكام إلصاق التهمة بزوجها، و«كوب» قام في المقابل بحبس زوجته وابنيه في إطار من عالم الأحلام الخاص به حتى تدخل «أريادين» إليه رغما عنه.

وبتصاعد الأحداث يمنح رجال المال والأعمال الفاسد «سايتو» «كين وتاتابي» «كوب» فرصة عمره لمحو الجريمة المدان بها والإقامة مع ابنيه؛ وذلك عبر قدرته على الدخول إلى عالم الحلم الخاص بـ«موريس فيشر» أو (بيتي بوستيلتوايت)، رجل المال الشهير صاحب الإمبراطورية التجارية الذي يريد حرمان ابنه منها جزئيا، وإقناعه بإبدال الوصية وإعطاء ابنه الشاب الإمبراطورية المالية كلها.

ولأن المهمة معقدة يضطر أعضاء الفريق للدخول عبر عدة مستويات من الأحلام المتداخلة؛ والتي تصل إلى 4 أحلام متراكبة، مع وجود تقني للربط بين الأحلام المختلفة التي تدور في منطقة متجمدة، وفي الشوارع، وفي فندق، بالإضافة إلى عالم «كوب» و«مال»، ولإقناع المشاهد أكثر فإن «أرثر» (جوزيف غوردون ليفت) تقني يعدل ويضمن استمرار مسارات جميع الأحلام، وهو يقلد الكاتب «دان براون» أحيانا ويدس الفيلم معضلات الأرقام في سياقه.

وتبقى نهاية الفيلم السعيدة، بنجاح المحاولة ولم شمل كوب بأبنيه، مشكوك فيها أهي بقية حلم من الأحلام أم واقع؟ وهي النهاية التي غاص في تفسيرها كثيرون بخاصة مع إشكالية التميمة الخاصة بـ«كوب» والتي تميز حلمه الخاص عن أحلام غيره التي تستدعي طيفه.

متعة تذوق المشابهة

برأي صاحب هذه الكلمات فإن أعمق متعة يمنحها الفيلم لمشاهديه ليست الخاصة بالإيقونات التي يصممها كل عضو من أعضاء الفريق لنفسه، ولا حتى تشبيه أعضاء فريق الأحلام بفريق صناعة فيلم سينمائي، أو تفسير مناطق الإفاقة أو الأحلام في الفيلم، والحرص على إظهار جوانب الفشل في حياة «كوب» ومطاردة «مال» له (زوجته الراحلة)، ورغبة «أريادين» في إنقاذه منها، وإنما أبدع الفيلم في تخيل عالم مواز لعالمنا.. مبهج ومفرح يمكن لمن يشاء الانتقال إليه؛ وهو يمثل «الجنة» في المنظور الخاص بالأديان السماوية لكن من خلال نظرة عقلية بحتة في الفيلم؛ حتى إن بنت عالما موازيا مستدعيا العلم إلا أنها اعتمدت على الغيبيات في بنائه، كما أن البناء الهندسي لمدن الأحلام وتقنيات الأحلام المتراكبة تصور جانبا رائعا من جوانب قراءة النفس البشرية بتناقضاتها وواقعها المرير ووحل حياة الإنسان الغربي، كما أن البناء نفسه يتيح قراءة الواقع النسبية في عالمنا من جوانبه ومستوياته، فالتوريث الظالم سياسيا محبب اجتماعيا في الفيلم.

جاء أداء «ليوناردو دي كابريو» في الفيلم عاديا على النقيض من الممثلة الكندية «إلين بيغ» في دور «أريادين»، وعانى الفيلم من التطويل بخاصة في البداية وكثرة الممثلين إلى حد يشتت المشاهد ويطالبه بمشاهدة ثانية للفيلم، وهو ما عده البعض تفوقا للفيلم، وجاءت الموسيقى التصويرية لـ«هانز زيمر» مناسبة في مجملها.

فيلم «استهلال» جملته المحورية يقولها عجوز غامض للبطل فالواقع، برأيه، صار حلما والعكس صحيح وواهم من يظن غير ذلك، والعمل حرص على إظهار أن الفكرة الخبيثة تمثل فيروسا أشد فتكا من جميع المنتجات وأشكال الشر ولو كانت دودا أو ما شابه، وبالتالي يقف الغرب عاجزا بمنجزات حضارية غير مسبوقة في تاريخ البشرية وكذلك أفكاره الخبيثة الهدامة في ظل منظومة تفتقد الإطار الحامي الروحي الدفاعي الباعث على الحياة.

  كلمات مفتاحية

استهلال فيلم أمريكي حلم حضارة مادية جهاز عالم مواز تجسس جريمة فريق عمل تعبيرية نهاية سعدية قراءات

فيلم «الشريط الأبيض»: هل فجر الأطفال الألمان حربين عالميتين؟!

فيلم كُلْ .. صَلَّ .. أحِبَّ: هل تمر السعادة عبر الغرب أم مكة؟