«قتلوا أبي أولا»: هل مسخت أمريكا كمبوديا واقعيا وسينمائيا؟!

الأربعاء 1 نوفمبر 2017 05:11 ص

فيلم «قتلوا أبي أولا أو First They Killed My Father» للمخرجة الأمريكية بعد الممثلة «أنغلينا جولي» إنتاج فبراير/شباط من العام الحالي؛ والذي نتناوله اليوم بالنقد والتحليل الفني، يفتح الباب واسعا على أسئلة تتجاوز مدة عرض الفيلم الطويلة نسبيا، إذ يقع الفيلم في قرابة 136 دقيقة.

على أن الأسئلة التي يفجرها الفيلم لا تتوقف عند سياقه السينمائي بل تتعداه إلى حقب سياسية من حياة كمبوديا تتجاوز بمراحل الفترة التي تناولها الفيلم (من عام 1975 عام اقتحام الخمير الحمر للعاصمة الكمبودية حتى إسقاطهم عام 1979 بواسطة الفيتناميين وبعض القوى المحلية والمنشقة)؛ ليبرز السؤال الأكثر مرارة: هل مسخت أمريكا كمبوديا واقعيا وسينمائيا؟!

«أنغلينا جولي» ممثلة أمريكية شهيرة من مواليد 1975 معروفة بالحياة الصاخبة على المستويين الفني والاجتماعي، على أن ما يهمنا هنا هو أن «جولي» اعتزلت التمثيل منذ سنوات لتبدأ رحلة الإخراج محاولة ربط مسيرتها الجديدة بالسياسة كما في فيلم «أنبروكن»، المتناول لقصة حياة عداء أوليمبي أمريكي يدعى «لويس زامبرني» أسر لمدة عامين في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية.

ومؤخرا فكرت «جولي» مليا في استثمار حدث سياسي بامتياز لإثارة الصخب الفني الذي تعودته ولا تستطيع الحياة بعيدا عنه؛ على أن يمتد عمر الحدث لسنوات بعيدة، ويمكنها عبره فرض موجة شديدة من الدعاية الممتدة .. والأخبار المتكررة .. ومن هنا وقبل 15 عاما ذهبت «جولي» إلى كمبوديا وفي أحد الملاجئ اختارت طفلا أسمته «مادوكس»، وقيل إنها بكيت كثيرا لما شاهدته ثم تبنته وجعلته يمثل في فيلم اليوم (!)؛ وذلك بعد إخراجها فيلمي «ذا بريدوينر» و«إن ذا لاند أوف بلد آند هاني» عن أفغانستان؛ والبوسنة والهرسك، وقيل إنهما كانا نتاج عملها الإنساني كمبعوثة خاصة لوكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

على أن فيلمي أفغانستان والبوسنة لم يكونا كافيين؛ لذلك انتقلت المخرجة «جولي» لمجال أو أزمة أكثر إثارة لتقديم فيلم جديد تطرحه على الإنترنت بشكل رسمي للذين يريدون مشاهدته .. على أن يكون أول فيلم تدعمه هوليود بحسب مواقع.

ويبقى أن البؤر العالمية الساخنة سياسيا ما تزال كثيرة؛ و«جولي» تعمد إلى اختيار قضايا زخمها وعنفوانها السياسي قل، وإن كانت السياسة الأمريكية الظالمة تمثل طرفا فيها؛ ولكنها في المقابل تتغاضى عن دول يتحمل الضحايا واللاجئين من أهلها حتى الآن .. جراء السياسة الامريكية الظالمة المتعنتة بداية من فلسطين مرورا بالعراق وليس نهاية بمصر أو سوريا .. تركت «جولي» كل هذه لتطرح قضية تبدو لطيفة في نظر السياسة الأمريكية، اللامعة البراقة في الظاهر البالغة القسوة في المظهر الحقيقي والمخبر، ومن هنا جاء فيلم اليوم وفكرته التي استغرقت «جولي» لقرابة 15 عاما.

بداية موفقة ونهاية حائرة

استنادا على مذكرات لإحدى صديقات «جولي» أو«لونغ أونغ» حملت عنوان «First They Killed My Father A Daughter of Cambodia Remembers أو قتلوا أبي أولا .. مذكرات ابنة من كمبوديا» ..عن الفترة نفسها من حياة الكاتبة تم إنتاج فيلم اليوم.

تبدأ أحداث الفيلم قبيل أبريل/نيسان 1975 بخطاب الرئيس الأمريكي الأسبق «نيكسون» وفيه يقول الكلمات المعهودة المعروفة؛ التي تتغنى أمريكا بها كل مرة تتدخل فيها في الشؤون الداخلية بل تعصف فيها بحكم دولة من دول العالم الثالث لحساب مصالحها الخاصة، قال «نيكسون»: «إن أمريكا لا تريد أن تحتل كمبوديا بل نحن نعاون الشعب الكمبودي على أن يكون جيدا من جديد».

وفي الوقت الذي كان التلفزيون الرسمي التابع لنظام «لول نول» التابع لـ«نيكسون» يذيع هذه الكلمات كانت أسرة أحد أحد رقباء الشرطة التابعين لـ«نوم» يتابعون الخطاب، وسط عادات استهلاكية أمريكية مباشرة حتى الفجاجة .. من السراويل أو البناطيل «الشارلي ستون»، حسب موضة ذلك الوقت، ومساحيق تلوين الوجه للزوجة .. وحتى الاحتفال بأعياد ميلاد المسيح على النسق الأمريكي .. والاستماع للأغاني ذات الإيقاع الغربي والرقص عليها .. إنها أسرة مستسلمة ثقافيا تماما لـ«العم سام» وأسلوب حياته حتى أن الرقصة الشعبية الكمبودية تبدو مقحمة على السياق.

لكن «المتغطي بأمريكا عار» بحسب المثل الدارج، إذ إن الأخيرة تقرر الانسحاب من كمبوديا بعد سنوات من دس الأنف غير المبرر سوى لأن «نيكسون» و«كسينجر» قررا منذ الستينيات قصف كمبوديا تحت ستار مفضوح من السرية من أجل خلق عدو خارجي يداري على المشكلات الداخلية للبلاد .. وهو الأمر الذي لم يقتصر على كمبوديا فحسب للأسف.

يعترف الفيلم، دون أن يدري بالخطأ الأمريكي .. ولكن «جولي» كاتبة السيناريو والحوار والمخرجة تقفز فوق ذلك لفظائع «الخمير الحمر» في أهل العاصمة «بنوم بنه».. إذ يرغمون الكمبوديون على ترك البيوت بحجة القصف الامريكي، ثم يعدمون جميع المتورطين مع النظام المدعوم أمريكيا بالإضافة إلى الضعفاء والمشكوك فيهم.

أما «الخمير الحمر» الذين نراهم في الفيلم يتحركون بعنف وقسوة، وطوال الوقت ينهبون ويسرقون ويقتلون بخاصة النساء والأطفال .. فلا تخبرنا «جولي» بأنهم صناعة ضمنية أمريكية بامتياز كجميع الأنظمة الإرهابية التي تدفع أمريكا المظلومين إليها، فـ«الخمير الحمر» كانوا مجرد حيلة للوسطيين الكمبوديين للتخلص من أمريكا .. فتم استغلالهم من جانب متطرفين شيوعيين تبنوا منهجا اكثر قسوة من الشيوعيين أنفسهم .. إذ بعد الانسحاب الأمريكي رأوا أن أهالي المدن أشد خطرا عليهم لأنهم لن «يسمعوا ويطيعوا» لهم، فرحلوهم إلى الريف، وهناك بحجة التخلص من الإمبريالية والإقطاع استولوا على أموالهم ومقدراتهم وحاولوا خلق مجتمع توهمه قائدهم المتطرف «بول بوت»، وكان الأخير مريضا بجنون العظمة، بحسب «فيليب شورت» في كتابه «بول بوت: تاريخ كابوس» وكان «بوت» يرى حل مشاكل البشرية يتمثل في التخلص من المنجزات الحضارية كاملة اللهم إلا «حمل السلاح»؛ والعودة للعمل الزراعي بلا تمايز شخصي لفرد في الحياة؛ مع خنق الجانب الاجتماعي وبالتالي يحيا البشر كالحيوانات يعملون ويكدحون حتى الممات .. ويدينون للأنظمة بالتبعية في كل شيء.

وبمباركة من الإهمال الأمريكي صار «الخمير الحمر» يشعلون حربا طبقية .. يفرغون المدن من سكانها ويمنعون الأموال ويعدمون المثقفين لأسباب تافهة مثل مجرد ارتداء النظارة مثلا وهم يظنون أنه يأسسون المجتمع الفاضل الزراعي!

فظائع وسينما دون التسجيلية

تم تصوير الفيلم في كمبوديا في الفترة من نوفمبر/تشرين الثاني 2015 حتى فبراير/شباط 2016، واستعانت «جولي» بممثلين للمرة الأولى من مثل «ساروم سراي موش» التي قامت بدور «لونغ أونغ» في عمر 9 سنوات، وتم تدشين الفيلم في مجمع معبد «أنغكور وات» .. محاولا الجمع بين الصبغ الفنية والسياسية والدينية وهو ما لم ينجح الفيلم في الجمع بينها أو حتى مجرد تمثلها إلى حد كبير؛ فإن كانت «جولي» صورت قصة للأب المدان بالعمل مع النظام الموالي لأمريكا .. وهو والد البطلة الذي تختطفه منظمة «أنغكور» أو «المنظمة» بحسب اللغة الكمبودية .. أو «الخمير الحمر» .. فإن الأب المقهور نفسه يعمل في النهاية لحساب «الخمير الحمر» في النهاية؛ ويؤسر بعد سقوط نظامهم الأكثر رديكالية شيوعية في تاريخ العالم بحسب مؤرخين، أما لماذا تحول الأب فهو ما لا يشرحه الفيلم؟ بل لماذا نوه الفيلم إلى قتله منذ العنوان؟ .. فذلك سؤال فني بلا إجابة في سياق فيلم سينمائي لا يرقى للوثائقية المحايدة في النقل والتي تحرص على وجود السند التاريخي أو حتى ما يشبهه.

أما إغفال الدور الأمريكي في افتعال المأساة الكمبودية التي عصفت بقرابة ربع الشعب الكمبودي (قرابة مليونين من سبعة ملايين) فذلك ما قفزت علية «جولي» بل قفز عليه الفيلم كله؛ حتى أن 70% من الكمبوديين اليوم أعمارهم أقل من 30 عاما؛ وذلك ما يضرب مصداقة الفيلم في صميمها سياسيا بعد فنيا.

فيلم «قتلوا أبي أولا» يجسد معاناة كمبوديا الآسيوية من جراء الاحتلال بداية من الفرنسي في القرن التاسع عشر .. ثم التدخل الامريكي السافر ثم التخلي اللذين حولاها إلى مستعمرة كبيرة لفئة بشرية متطرفة .. واستمرارا لمسلسل الظلم الأمريكي ما تزال كمبوديا تعاني .. ثم جاء فيلم «جولي» ليتنكر أكثر للدور الأمريكي في ظلم كمبوديا .. لكن باسم الفن هذه المرة!

  كلمات مفتاحية

أمريكا كمبوديا هوليود جولي أونغ لونغ فيلم First They Killed My Father قتلوا أبي أولا

«شجرة الحياة»: فيلم أمريكي يمجد الخالق ويتعالى فوق الاختلافات!

«المتدرب» .. فيلم أمريكي «ينصحك» بإكمال المتاهة للبحث عن حل «حضاري» لحياتك!