الكرد وكرونولوجيا الفيدرالية في العراق

الاثنين 19 يناير 2015 06:01 ص

في التاريخ القريب للشعوب الكردية في المنطقة، ثمة مسألة ثقافية نمت في حياتها السياسية، وهي ليست بعيدة عن الحالة الموجودة لدى الشعوب المجاورة لها، ومنها في العراق تحديداً. وهذه تتلخص في نقاط عدة، أهمها: 

أولاً، فقدان القيادات الحزبية، ومنها العشائرية والدينية، للاستقلال السياسي.

ثانياً، افتقار هذه القيادات إلى التماسك التنظيمي، سواء في بيئاتها المحلية أو الإقليمية، ما جعل الساحات الكردية تكتظ بمئات التشكيلات والحركات والأحزاب السياسية، وكلها تدعي وصلا بليلى!

ثالثاً، الاختلافات الجذرية بين هذه القيادات، لناحية تصوراتها وتكتيكاتها الخاصة بالحالة الجيوسياسية للبلدان التي تعيش فيها، فضلاً عن فضاءات الاقليم بمجمله، والذي يشمل نمطا من العلاقات المتشابكة، منها المطامع الاستعمارية العالمية في عموم المنطقة، ومنها أيضاً العلاقة الخاصة بين السياسة الدولية الامبريالية والجغرافيا السياسية للإقليم، تحديداً حيث يتواجد الأكراد في العراق وإيران وتركيا.

علماً أن المؤرخين كافة يجمعون على أن المطالب الأولى للكرد، من خلال مذكرة شريف باشا، وهو من كرد تركيا، إلى مؤتمر باريس للسلام (1919 – 1920)، كانت تتضمن دولة كردية في الأراضي المتجاورة الواقعة في العراق وإيران وتركيا، ولم تشمل نهائيا الربوع السورية. وهذا منصوص عليه في معاهدة «سيفر»، وهي جزء من خمس معاهدات أقرت في المؤتمر المذكور.

من اللامركزية إلى الحكم الذاتي

يمكن القول من دون مبالغة، إن القوى السياسية الحاكمة في العراق، في العهدين الملكي والجمهوري العسكري حتى سقوط العراق في 2003 تحت الاحتلال الاميركي، كانت تتعامل مع القضية الكردية بصفتها شأنا داخليا، لا ترتفع إلى مستوى قضية شعب أو مسألة تحرر وطني. وهذا عمليا صدى رديء للموقف الخارجي الاقليمي والدولي نفسه.

بل إن بعض الدول الاشتراكية السابقة كانت تتصرف على الإيقاع ذاته، وتحاول أن تستفيد منها لمصلحة مناوراتها السياسية المحلية والاقليمية والدولية.

وكان السقف الأعلى للحقوق «الكردية» في العراق هو تشريع نوع خاص من اللامركزية الادارية في مناطق شمال العراق، من دون كركوك طبعا، التي تسكنها أكثرية كردية، أي في اربيل والسليمانية. أما الموصل، فكانت خطاً أحمر عراقيا وفي الميدان العربي.

أما شعار «الحكم الذاتي» فقد ظهر، سرا، ولأول مرة، في المباحثات التي جرت بين «الحزب الديموقراطي الكردي» بقيادة البارزاني الذي كان قد أشعل التمرد العسكري ضد عبد الكريم قاسم في يوليو/أيلول 1961، وبين حزب «البعث العربي الاشتراكي» في أبريل/نيسان 1962.

وكان مندوب الحزب، ابراهيم أحمد، قد طلب من مندوب «البعث»، والمكتب العسكري، طاهر يحيى، أن يلتزم الحكم الجديد الذي يطمح «البعث» إلى تحقيقه بعد إسقاط قاسم، بحقوق الكرد كاملة، ومنها «الحكم الذاتي» ضمن إطار العراق الموحد. ويقول الكرد إن «البعث» وافق على هذه المطالب، بينما ينفي قادة «البعث» ذلك كليا.

وحين نجح الانقلاب العسكري الدموي في 8 فبراير/شباط 1963، سارع البارزاني إلى تأييده من دون شروط، واشترك بوزيرين: بابا علي وفؤاد عارف، في الحكومة الجديدة. وسرعان ما فشلت الجهود التي بذلت من أجل الاتفاق بين الطرفين: الكردي البارزاني والحكم الجديد. لكن مناورات الطرفين انتقلت، رغما عنهما، إلى القاهرة في ذكرى تأسيس أول وحدة عربية.

هنا كان الدور المفصلي لقيادة عبد الناصر. وكانت ظروف اللقاء في القاهرة بين الوفد الحكومي الرسمي والوفد الكردي مع عبد الناصر تتحكم فيها العناصر الحاسمة التالية:

أولاً، ان الناصرية كانت تقود النظام العربي الرسمي برغم «الحرب الباردة» بينها وبين السعودية، وبرغم الانتكاسة الانفصالية التي حصلت في سوريا.

ثانياً، ان عبد الناصر كان القائد الرئيسي في المنطقة على المستوى العربي والدولي، وكان سيد الشارع من دون منازع.

ثالثاً، ان «البعث» كان يعيش في ازمة حقيقية مع العديد من القوى السياسية المهمة في العراق، ومنها «الحزب الشيوعي» وبعض القوى الليبرالية، وحتى عناصر وحركات قومية مهمة بعضها يتمتع بعلاقات جيدة مع القاهرة.

رابعاً، ان القيادة الكردية البارزانية كانت معزولة عن الشيوعيين ومعظم القوى في الجانب العربي، ومنها قوى شوفينية ترفض الاعتراف بحقوق الكرد تماماً. وقد استطاع عبد الناصر، بعدما شرح لهم مخاطر تدخل شركات النفط الأجنبية في العراق فضلاً عن أطماع إيران، ان يدفع الكرد الى تقديم مذكرة مهمة في 8 أبريل/نيسان 1963.

حددت فيها قيادة البارزاني موقفها السياسي ضمن النقاط الأساسية التاية:

أولاً، يوافق الكرد على حكم اللامركزية الموسع ضمن وحدة العراق.

ثانياً، في حالة الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، يقبل الكرد بالحكم الذاتي ضمن وحدة العراق الكاملة مع الإطار الجمهوري الجديد الموحد.

ثالثاً، في حالة قيام الوحدة العربية استراتيجياً، يطمح الكرد إلى قيام اقليم كردي يرتبط مع الدولة العربية الواحدة، على ان يقرر مصيره لاحقا إذا نضجت الظروف لتحقيق الدولة الكردية الصديقة والحليفة للدولة العربية.

وكانت المذكرة، بضمانة سياسية من الجمهورية العربية المتحدة، وبضمانة شخصية من عبد الناصر.

لا شك أن الأمور ارتبكت لاحقاً، وكان سوء التخطيط وفقدان الثقة بين الأطراف كافة، لا سيما بعد انقضاض عبد السلام عارف على «البعث» وإبعاده عن السلطة وبدء المرحلة القومية في حكم البلاد. ومن الطريف أن نذكر أن الانشقاقات السياسية الحزبية قد شملت كامل القوى الأساسية في المجتمع العراقي طيلة الفترة الممتدة بين عامي 1963 و1968، حين صعد «البعث» ـ مجموعة أحمد حسن البكر ـ إلى السلطة للمرة الثانية.

فقد انقسم «الحزب الشيوعي» إلى أقسام، ومن ذلك كان الانقسام الكبير للقيادة المركزية في أيلول 1967.

وعانت الحركة القومية، وهي في السلطة، من انشقاقات كبيرة ومن تبعثر «الاتحاد الاشتراكي»، حزب الحكم الواحد وتحوله إلى تنظيمات سياسية وعسكرية عدة.

أما «البعث»، فقد انشق إلى فرعين أساسيين، الأول مرتبط مع القيادة السياسية السورية، «البعث اليساري»، والثاني بقيادة «البكر – صدام حسين» المعادي له ولسوريا أيضأ.

أما «الحزب الديموقراطي الكردي» بقيادة الملا البارزاني، فقد تصدع أيضا وانشقت عنه كتلة «ابراهيم أحمد – جلال الطالباني»، التي تعاونت أولا مع شاه إيران، وبعدها انتقلت الى التنسيق مع حكم «البعث» الجديد في العام 1968.

في مارس/آذار 1970، جاء بيان صدام حسين ـ عزيز شريف، الذي نص على الحكم الذاتي للكرد ضمن وحدة العراق، ليحرك المياه السياسية الراكدة في عراق الانقلاب الجديد.

وقد اعتبره الكرد انتصارا تاريخيا لشعاراتهم التي رسموها خلال نصف قرن من حياتهم المدنية والعسكرية. وبرغم أن بعض الغموض لف دوافع وجذور الاتفاق، فإن ما تحقق اعتبر حينها خطوة مهمة لتحقيق الاستقرار الداخلي وتمتين الوحدة العراقية.

لكن «الحكم الذاتي» للكرد كان مظلة دموية لاضطهاد وتصفية القوى السياسية الحية في الوطن كافة. كما أن حسابات البيدر الكردي لم تتطابق مع حسابات الحقل الحكومي، خصوصاً قيادة صدام حسين الطامعة للاستيلاء الكلي على السلطة.

من الحكم الذاتي إلى الفيدرالية

وبرغم مناخات الصدام السياسي وبعده العسكري في العام 1975 وانهيار التمرد المسلح للبارزاني بعد اتفاقية آذار 1975 بين شاه إيران وصدام حسين، إلا أن شعار الحكم الذاتي ظل شعاراً مركزياً للكرد والقوى السياسية الأخرى في المعارضة الخارجية. ولا شك أن الثورة الاسلامية في إيران العام 1979، أجرت تعديلات مهمة في خريطة المعارضة السياسية العراقية وشعاراتها، لا سيما لناحية صعود الاسلام السياسي الشيعي.

الا أن القوى الكردية، وأهمها تنظيم البارزاني وحزب الطالباني، استمرت على الطريق ذاته، لكن في ظروف أكثر تعقيدا، خصوصاً خلال سنوات الحرب العراقية ـ الايرانية. بيد أن الأمور تغيرت جذريا إثر الدخول العراقي في العام 1990 إلى الكويت. وكانت الفرصة ملائمة بعد الحرب على العراق العام 1991 وفشل مؤتمر المعارضة في آذار1991 في بيروت.

فقد جعلت هيمنة اميركا على المنطقة منها مسيطراً على القرار السياسي للمعارضة من جهة، والقوى الكردية من الجهة الأخرى. واستجاب الجميع بخنوع للاملاءات الاميركية وحتى الإسرائيلية أحياناً. وقررت اميركا الحظر الجوي على العراق وساهمت في بناء «حكومة كردية» شبه سياسية ومحمية من جانبها.

بعد هزيمة جورج بوش الأب في الانتخابات ومجيء بيل كلينتون، فرضت اميركا شعار «الفيدرالية» على الكرد والقوى المعارضة الأخرى، وأعلن البارزاني ذلك في ادبيات حركته وبالتعاون الكامل وغير المشروط من جانب قيادة «الحزب الشيوعي» العراقي. ويمكن القول إن هذه الخطوة المكملة «فكريا» لبيان مارس/آذار 1970، وضعت حجر الأساس لتمزيق العراق، وسهلت بروز اتجاهات شيعية فيدرالية، وشكلت الفرصة الكاملة لغزو العراق واحتلاله.

 

 

المصدر | السفير

  كلمات مفتاحية

الأكراد الفيدرالية سوريا العراق تركيا السعودية الكويت أمريكا فرنسا النفط السياسة الحرب الباردة