«فورين بوليسي»: المجتمع المدني المصري في «حجرة الإنعاش»

الجمعة 22 ديسمبر 2017 10:12 ص

على مدى أكثر من عقدين، كان مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب المنظمة الوحيدة في مصر المكرسة لمساعدة الناجين من التعذيب. وعمل أطباء المركز في ظل الحكم الاستبدادي لـ«حسني مبارك»، وفي ظل المجلس العسكري الذي حل محله، وفي ظل أول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر «محمد مرسي»، وكان يقدم العلاج النفسي لمن عانوا من الإيذاء في سجون وأقسام مصر. ولم يقم المسؤولون في عهد الرئيس «عبد الفتاح السيسي» بإغلاق عياداتهم إلا في هذا العام.

ولم تعتقل الشرطة الجميع مع ترحيلهم إلى السجن، لكنها بدلا من ذلك، في فبراير/شباط، وصلت إلى العيادة وأغلقت أبوابها بالشمع الأحمر، ومنعت اثنين من مؤسسي المركز، وهما «عايدة سيف الدولة» و«سوزان فياض»، من السفر إلى الخارج.

وجاء أمر الإغلاق من وزارة الصحة على أساس أن العيادة قد تجاوزت سلطتها بإصدار التقارير. وكثيرا ما كان المركز ينشر معلومات عن التعذيب، بما في ذلك جميع حالات التعذيب التي تم الحديث عنها في وسائل الإعلام. وقالت «سيف الدولة» إن السبب الحقيقي للإغلاق هو أن المركز قد يكشف أكاذيب حكومة السيسي.

وقالت: «نحن نتحدث عن التعذيب. وهم يعرفون أن لدينا معلومات مباشرة عن التعذيب، لأننا نرى الضحايا . وعلى عكس النظام السابق - نظام مبارك - الذي كان يقول نعم، هناك تعذيب، لكنها حالات فردية، فإن هذا النظام - السيسي - يقول لا يوجد تعذيب ... ونحن نعلم أنهم يكذبون. ولا يتعرض للتعذيب عدد صغير من السكان».

ولا يعد قمع منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني في مصر جديدا. ولكن في ظل «السيسي»، وصل إلى مستويات لم يسبق لها مثيل. وقال النشطاء إن حكومته لم تتراجع فحسب عن المساحة التي فتحت عندما أسقطت الاحتجاجات الجماهيرية «مبارك»، ولكنها تسعى إلى القضاء على تلك المنظمات تماما.

وكثيرا ما يستخدم المسؤولون المصريون كفاح البلاد ضد الإرهاب كمبرر للقمع المستمر. وقال «ضياء رشوان» - رئيس جهاز الإعلام الحكومي - بعد الهجوم الارهابي الذي وقع الشهر الماضي على مسجد في شمال سيناء وأسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص: «إن هذه الجريمة الشنيعة إنذار لجميع المنظمات التي تتاجر برفع لافتات الحريات، فلقد آن الأوان لأن يدركوا أن تقاريرهم المفترضة، التي تعج بالمبالغات والمعلومات الكاذبة، من شأنها أن تجعل هذه المنظمات شريكة في إعطاء ذريعة - وإن كانت عن غير قصد - لهذه الجرائم ومرتكبيها».

ويقول ناشطون في مجال حقوق الإنسان إن الاعتداء على المجتمع المدني يبدو مرتبطا بتدعيم الإلغاء التدريجي لمنظمات المجتمع المدني دون أن تحريك أجراس الإنذار لدى حلفاء مصر الغربيين. وبدلا من اتباع الأساليب التقليدية التي قد تزج عن بأبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في مصر خلف قضبان المحاكم، اتخذت السلطات نهجا أكثر صرامة باستخدام مجموعة من التكتيكات لإضعاف قدرة المنظمات والأفراد على العمل.

تراجع مأساوي

وتفاقم الوضع في مايو/أيار عندما وقع «السيسي» قانونا جديدا ينظم عمل منظمات المجتمع المدني. ويجرم القانون معظم أعمال المنظمات غير الحكومية، ويراقب تمويلها بشكل صارم، وينشئ وكالة جديدة للإشراف على منظمات المجتمع المدني تضم ممثلين عن أجهزة الأمن القومي في مصر، تلك الأجهزة التي كانت معادية لمنظمات حقوق الإنسان في مصر منذ وقت طويل. وقد أحاطت الولايات المتحدة علما بما يحدث. وفي أغسطس/آب، وجهت توبيخا غير عادي للحكومة المصرية عن طريق تأجيل وإلغاء جزء من مساعدتها السنوية لمصر بأكثر من 1.3 مليار دولار. ولم تصدر الحكومة بعد اللوائح الداخلية للتشريعات الخاصة بالقانون، لذلك لا تستطيع المنظمات التقدم بالطلب اللازم للتسجيل، وأصبحت في الظلام بشأن ما سيحدث بموجب القواعد الجديدة.

وفي خضم كل هذا، كان التراجع الذي تعرضت له منظمات المجتمع المدني في الأعوام الأخيرة مأساويا. ولم يعد للمجموعات الدولية مثل هيومن رايتس ووتش مكاتب في مصر، وأغلقت المنظمات المحلية مكاتبها خارج القاهرة. وقال «حسام بهجت» - المؤسس والمدير التنفيذي السابق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية - إن العمل في مجال السياسة العامة غير متاح بسبب «عدم وجود أي شخص يُسمح له بالتعامل معها». وأضاف: «إننا نعود إلى عهد مبارك من حيث أنواع الأنشطة. حيث يعمل معظم الناس الآن في المساعدة القانونية والوثائق، وهذا كل شيء».

وحتى توثيق انتهاكات حقوق الإنسان قد أصبحت أصعب بسبب القيود المفروضة على الوصول للحالات.

وقال «محمد لطفي»، المدير التنفيذي للجنة المصرية للحقوق والحريات: «علينا أن نختار معاركنا. فمن الناحية الاستراتيجية، من الخطأ أن تنتهج الهجوم الكامل، في جميع الملفات، وفي نفس الوقت».

وقال إن من أخطر الأنشطة للمصريين في الوقت الحالي هي السفر إلى الخارج للتوعية بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر. وفي سبتمبر/أيلول، اختفى «إبراهيم متولي»، وهو محام يوثق حالات المختفين قسريا من قبل الدولة، من مطار القاهرة الدولي قبل أن يستقل طائرة إلى جنيف للإدلاء بشهادته في فريق عامل تابع للأمم المتحدة بشأن حالات الاختفاء القسري. وأكدت السلطات في وقت لاحق اعتقاله بتهمة نشر أخبار كاذبة وتأسيس منظمة غير مشروعة. وقال معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان إن ما لا يقل عن 28 من الناشطين الحقوقيين تم منعهم من السفر.

ولم يخل عمل الناشطين أبدا من مواجهة العقبات، حتى قبل تولي «السيسي» للسلطة. وفي عام 2013، تمت إدانة 43 موظفا من المنظمات الدولية، بما في ذلك 15 أمريكيا، بإثارة الاضطرابات وتلقي أموال أجنبية، وتم إغلاق مكاتبهم في ما أصبح يعرف باسم قضية التمويل الأجنبي. لكن بعد انقلاب عام 2013، أعادت السلطات فتح القضية، واستهدفت هذه المرة المنظمات المصرية. وقد تم استدعاء 18 شخصا على الأقل لاستجوابهم بتهم مثل «تلقي تمويل أجنبي لعرقلة المصلحة العامة وتهديد الأمن القومي». كما جمدت السلطات أصول 10 أفراد و7 منظمات - وفقا لما ذكره المركز.

كما استخدمت الحكومة المصرية حظر السفر للحد من الاهتمام الدولي بحالة حقوق الإنسان في مصر. وقد وجد النشطاء أنفسهم غير قادرين على حضور المؤتمرات أو قبول الجوائز، حيث لم يتمكن «محمد زارع» - مدير برنامج مصر في مركز القاهرة الدولي لحقوق الإنسان - من السفر إلى جنيف في أكتوبر/تشرين الأول لقبول جائزة مارتن إينالز، وهي جائزة مرموقة للمدافعين عن حقوق الإنسان. وغابت «مزن حسن»، مديرة نظرة للدراسات النسوية، عن حفل ستوكهولم لتسلم جائزة رايت ليفلهود، التي يشار إليها أحيانا باسم «جائزة نوبل البديلة».

كما يشكل حظر السفر وسيلة للضغط على الناشطين ماليا. حيث لم تعد «عزة سليمان» - رئيسة مركز المساعدة القانونية للمرأة المصرية - قادرة على السفر لإجراء الاستشارات التي تعتمد عليها في الدخل. ويجري التحقيق معها - شأنها في ذلك شأن جميع المستهدفين في القضية - بسبب التهرب من دفع الضرائب، حيث تحاول السلطات تصوير الأموال التي تتدفق إلى المركز لتمويل المشاريع على أنها دخل شخصي لها. وقامت السلطات أيضا بتجميد أصول المركز، واضطرت المنظمة إلى إغلاق ملجأها لضحايا العنف من الإناث، وخفض عدد موظفيها بنحو الثلث، والحد بشكل كبير من عدد النساء اللواتي يقدم لهن المساعدة القانونية.

وحتى أولئك الناشطين الذين ليس لديهم قضايا مفتوحة ضدهم، فإنهم يخشون من أن تعتقلهم السلطات دون إنذار أو تبرير. وقد تم احتجاز «مينا ثابت»، وهو باحث بالمجلس الأوروبي يحضر الآن دبلومة في الدراسات العليا في بريطانيا، لأكثر من شهر العام الماضي، وكان معظمه في الحبس الانفرادي. وقال إن اعتقاله كان ظاهريا للمشاركة في احتجاج، لكنه اكتشف فيما بعد أنه جاء نتيجة لعمله الذي يوثق انتهاكات حقوق الأقليات. وتم إغلاق القضية ضده، لكنه لا يزال يعيش تحت فكرة أن أي طريق في مصر يؤدي إلى السجن.

الانقلاب الناعم

وكانت الانقلاب الناعم في جهود الحكومة المصرية لخنق عمل حقوق الإنسان، متمثلا في قانون المنظمات غير الحكومية الجديد، الإجراء الوحيد الذي أثار غضبا حادا لدى الأمريكيين. وفي يونيو/حزيران، دافع المتحدث باسم وزارة الخارجية «أحمد أبو زيد» عن القانون، قائلا إنه صمم «لدعم الشفافية وسيادة القانون، وبدون نية لوضع أي قيود على أنشطة المنظمات غير الحكومية».

وينطبق القانون على جميع المنظمات غير الحكومية، مما يعني أنه لن يؤثر فقط على الجماعات الحقوقية، بل أيضا على الجمعيات الخيرية والمنظمات التنموية التي توفر الخدمات الحيوية لسكان مصر.

وقالت «نانسي عقيل» - مديرة معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط - إن حلفاء مصر، بما فيهم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يشعرون بالقلق بشكل خاص من الحد من قدرتهم على تمويل أعمال التنمية في مصر من خلال المنظمات غير الحكومية.

وقالت: «من الغريب جدا أن تقوم الحكومة المصرية بذلك في الوقت الذي تواجه فيه أزمة اقتصادية وتضخم مرتفع». وأضافت: «هي الآن تقوم بإغلاق جميع القنوات لهذه المنظمات للعمل بطريقة قانونية».

وحث المسؤولون الأمريكيون «السيسي» على عدم التوقيع على القانون حين زار الرئيس المصري واشنطن في أبريل/نيسان. وقالت عقيل: «كنت أعرف أن هذا كان على رأس جدول الأعمال، وتم التأكيد عليه في عدة اجتماعات. لكنهم فوجئوا عندما ذهب و فعل ذلك».

وقال «جاسر عبد الرازق» - المدير التنفيذي للمبادرة المصرية لحقوق الإنسان: «إذا تم تطبيقه (القانون) بجدية، فلن يكون بإمكان أي يعيش بالشكل الذي نعيشه الآن، وعلى الأرجح لن نكون قادرين على الوجود كمنظمات غير حكومية مسجلة بموجب القانون الجديد».

ومع ذلك، لا تزال تعمل العديد من منظمات الحقوق. وفي نظرة للدراسات النسوية - إحدى المنظمات المستهدفة بتجميد الأصول - يعمل الموظفون على أساس تطوعي. ولا يزال مركز النديم يعمل أيضا. وعلى الرغم من إغلاق العيادة، نجح المركز في إعادة فتح مكتبين آخرين من قبل السلطات، ولا يزال الأطباء يرون مرضاهم خارج العيادة، في مكاتبهم الشخصية أو في نقابة الأطباء أو حتى في المقاهي.

ويواصل المركز قيادة حملة ضد حالات الاختفاء القسري - بما في ذلك توثيق حالات الاختفاء والتوعية وتقديم المساعدة القانونية لأسر الضحايا - مما أجبر الحكومة على الاعتراف بهذه المسألة. وأصدرت المبادرة المصرية لحقوق الإنسان مؤخرا تقريرا عن حملة الحكومة ضد المثليين والمتحولين جنسيا.

وقال «عبد الرازق»: «لقد اخترنا منذ فترة أن الأفضل هو إبقاء المكتب مفتوحا». وأضاف «إذا كنت معرضا للاعتقال، فإنني أفضل أن يتم اعتقالي من هنا، وليس من غرفة بجوار أطفالي النائمين».

المصدر | فورين بوليسي

  كلمات مفتاحية

السيسي مصر مركز النديم منظمات المجتمع المدني