النظام التجاري العالمي يواجه تهديدا وجوديا بسبب كورونا

الأربعاء 29 أبريل 2020 06:28 م

على مدى 3 أعوام، هاجمت إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" نظام التجارة العالمي. والآن، خرجت قوة أخرى لتضرب التجارة الدولية.

ويتسبب تفشي جائحة "كورونا" في ضغوط جديدة تدفع نحو "الحمائية" (سياسة تجارية تهدف إلى حماية الإنتاج الوطني من المنافسة الأجنبية)، وتحتاج منظمة التجارة العالمية إلى الاستعداد لمزيد من البلدان التي تستسلم للضغوط.

وإذا تم ترك هذا الاتجاه دون رادع، فقد يعيد العالم تجربة الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما انخفض الإنتاج الصناعي بنحو 40%، وارتفعت البطالة.

وكما هو الحال الآن، لم تسبب الحواجز التجارية هذه المشاكل. ولم يؤدِ تعريفة "سموت - هاولي" الأمريكية إلى حدوث الكساد الكبير، ولن تسبب التعريفات اليوم في ظل "كوفيد-19" الكساد أيضا.

لكن مثل هذه الحواجز يمكن أن تؤثر على الانتعاش، خاصة بالنظر إلى الأهمية الحديثة لسلاسل التوريد العابرة للحدود.

وسوف يؤثر ما يحدث الآن على الشكل الذي سيتخذه النظام التجاري لعقود قادمة.

التعريفات قادمة

ولا ينبغي أن يتفاجأ أحد إذا استخدمت إدارة "ترامب" الوضع الحالي كذريعة لفرض حواجز تجارية جديدة. وأظهر "ترامب" أنه سعيد بتطبيق قيود تجارية واسعة في الأوقات الاقتصادية الجيدة، حتى مع اعتراضات الشركات الأمريكية.

ولا تزال التعريفات سارية على عشرات المليارات من الدولارات من الصلب والألمنيوم. وتوصلت الإدارة إلى هدنة مؤقتة مع الصين في فبراير/شباط، لكن معظم تعريفات الحرب التجارية لا تزال قائمة، ولا تزال تؤثر على أكثر من نصف التجارة في الاتجاهين.

وتأتي الآن الأوقات الاقتصادية السيئة، بالتوازي مع الانتخابات الرئاسية. وسوف يحتاج "ترامب" إلى طرف ما يلقي عليه اللوم في البطالة والإفلاس الناتجين عن تفشي الوباء.

وإذا اختار "ترامب" الجهات الأجنبية ككبش فداء، فإن خطوته الطبيعية التالية ستكون المزيد من الحمائية.

وأبدت دول أخرى ضبطا ملحوظا للنفس خلال الأعوام الثلاثة الأولى لحكم "ترامب"، حيث أنها لم تصعد الأمور بحمائية خاصة بها من جهتها.

وربما كان قادة هذه الدول ينتظرون انتهاء فترة "ترامب"، على أمل الحفاظ على استمرار نظام التجارة القائم.

وباستثناء الصين، حافظت الدول إلى حد كبير على ردودها على إجراءات "ترامب" بما يتماشى مع قواعد فترات التوتر لمنظمة التجارة العالمية.

كما تصرفت في الغالب من خلال إظهار التضامن، وامتنعت عن انتقاد بعضها البعض. حتى أن الاتحاد الأوروبي انتهز الفرصة لعقد صفقات تجارية جديدة مع كندا واليابان والبرازيل والأرجنتين، ليصور نفسه على أنه بطل التعددية والتعاون الدولي.

غير أن الوباء أجهد ذلك التضامن. وظهرت الحواجز التجارية داخل أوروبا بسرعة كبيرة. وفي مارس/آذار، حظرت فرنسا وألمانيا بيع معدات المستشفيات الحيوية خارج الحدود الوطنية، بما في ذلك إلى إيطاليا التي تمزقها الأزمة.

وكان على المفوضية الأوروبية أن تتدخل لأجل حل وسط؛ حيث يمكن للدول الأعضاء أن تقصر صادرات الإمدادات الطبية على بعضها البعض.

وبهذا الترتيب، أنقذت بروكسل الانسجام الداخلي، على حساب السلطة الأخلاقية والتعددية التي عملت أوروبا بجد للحفاظ عليها خلال عصر "ترامب".

وشرعت المملكة المتحدة وكوريا الجنوبية والبرازيل والهند وتركيا وروسيا، وعشرات البلدان الأخرى، في تقييد تصدير الإمدادات الطبية والأدوية، وحتى الطعام.

لكن الممارسات الاقتصادية الوطنية تنطوي على مخاطر، وقد لا يحدث أخطرها أثناء الوباء، ولكن بعده، عندما يبدأ الإنتاج الصناعي في الدوران.

وأغلق معظم قطاع التصنيع في أوروبا أبوابه للمساعدة في الحد من تفشي الفيروس. لكن التوقيت غير المتزامن للوباء العالمي قد يعني أن البلدان خارج أوروبا ربما تعيد فتح اقتصاداتها قبل أوروبا.

وعندما تظهر فجأة الأحذية والإلكترونيات والمواد الكيميائية والسلع الأخرى ذات الأسعار المنخفضة في موانئ روتردام وهامبورج، سيثير ذلك الصناعة الأوروبية بالتأكيد، وستطالب بالحماية الجمركية من هجوم التجارة غير العادلة.

علاوة على ذلك، ربما تحاول الصين إعادة تنشيط اقتصادها المنكوب من خلال دعم التصنيع بالطريقة التي دفعت أوروبا والولايات المتحدة وغيرها إلى الشكوى من الممارسات التجارية غير العادلة.

ونظرا لأن المنتجات الصينية ستظل في الغالب معزولة عن الولايات المتحدة بسبب الحرب التجارية، فستكون بروكسل بمثابة وجهة مهمة.

لكن الحكومات خارج أوروبا ستتعرض أيضا لضغوط لحماية الصناعات المحلية، وسيواجه المصدّرون الأوروبيون وطأة هذه الإجراءات في الأسواق الخارجية.

ويمكن للشركات في كل مكان السعي لمنع الواردات من خلال مطالبة حكوماتها بضرب المنافسين الأجانب بأشكال عديدة من التعريفات.

وتساعد شروط منظمة التجارة العالمية لفرض الرسوم الجمركية في هذا الأمر بشدة، حيث لا يجب على أي صناعة سوى إظهار أنها أصيبت بأضرار بالغة، وهو ما ليس من الصعب إثباته بالنظر إلى الصعوبات الاقتصادية الحالية.

وبعد ذلك، تتحجج الصناعات بالمبرر الشائع بأنه يجب معاقبة الدول الأجنبية على الممارسات التجارية غير العادلة.

وستكون إحدى العبارات الشائعة التي تدخل إلى الخطاب العام هي "الضرر واجب التعويض". ويصف هذا المصطلح تعريفة "مكافحة الدعم" التي تستخدم لتثبيط المنافسة غير العادلة الناشئة عن تدخل الدولة في الأسواق.

وتخصص الحكومات حاليا تريليونات الدولارات لإبقاء الشركات واقفة على قدميها. وفي أعقاب "كوفيد-19"، ستصل الكثير من الواردات على الشواطئ الأجنبية من الشركات التي استفادت بعمليات الإنقاذ.

وبموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، لا يهم كثيرا إذا حصلت الصناعة المحلية على منحة ما أيضا، أو إذا كان الدعم الأجنبي سياسة اقتصادية معقولة في ذلك الوقت.

وتسمح القواعد لكلا الجانبين بالدعم، ولكلا الجانبين بتبادل الرسوم الجمركية المضادة للدعم.

وبالرغم من ذلك، فإن هناك سيناريو أسوأ. وقد تتجاهل بعض الحكومات قواعد منظمة التجارة العالمية تماما، وتحاكي إجراءات "ترامب" بشأن الفولاذ والألومنيوم، وتزعم أن الواردات بحاجة إلى التوقف لأن التجارة تشكل تهديدا لأمنها القومي.

أو قد يبررون فرض التعريفات على أنها استجابة ضرورية لحالة الطوارئ الصحية العامة، كما فعلت بروكسل مع ضوابط التصدير على الإمدادات الطبية.

هذه المرة مختلفة

ومن خلال الالتزام السياسي المنسق بين القادة العالميين يمكن وقف "الهجمة الحمائية" في هذه الأوقات غير العادية، ولكن قواعد منظمة التجارة العالمية تجعل مثل هذه الحمائية أمرا متوقعا للغاية في غياب خطة مسبقة لمنعها. 

وأنتجت الأزمة المالية لعام 2008 انهيارا اقتصاديا حادا وعميقا بما يكفي لتهديد النظام التجاري الحديث. ومنذ دمار الثلاثينيات من القرن الماضي، كان الخوف هو أن تتسبب الصعوبات الاقتصادية في عوائق تجارية تخرج عن السيطرة.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2008، بالرغم من عدم معرفة مدى خطورة الأزمة الاقتصادية، جمعت إدارة "جورج دبليو بوش" قادة 20 من الاقتصادات الصناعية والناشئة الكبرى في مجموعة الـ20 الجديدة، حيث تعهد الحاضرون بتعهد هام، وهو الأهمية الحاسمة لرفض الحمائية، وعدم الانقلاب إلى الداخل في أوقات عدم اليقين المالي.

وفي هذا الصدد، خلال الأشهر الـ12 التالية، اتفق الجميع على ما يلي: "سنمتنع عن وضع حواجز جديدة أمام الاستثمار أو التجارة في السلع والخدمات، أو فرض قيود جديدة على الصادرات، أو تنفيذ تدابير غير متسقة مع منظمة التجارة العالمية لتحفيز الصادرات".

ولم يكن توقيت أزمة 2008 مثاليا. وانهار بنك "ليمان براذرز"، واحتاجت قطاعات المالية والسيارات في الولايات المتحدة إلى عمليات إنقاذ. وفجأة وجد ملايين الأمريكيين أنفسهم عاطلين عن العمل. وما زاد الطين بلة أن حكومة الولايات المتحدة كانت في خضم مرحلة انتقالية؛ حيث كانت إدارة "بوش" على وشك مغادرة البيت الأبيض بعد 8 أعوام من الخدمة، ولن يبدأ "باراك أوباما" رئاسته حتى 20 يناير/كانون الثاني 2009.

وكانت إدارة "بوش" عبارة عن بطة عرجاء وغير محبوبة بشكل كبير في الخارج. وكانت السمعة الدولية للولايات المتحدة لا تزال تترنح بسبب حرب العراق.

وتصاعدت التوترات مع الصين بسبب تحكمها في سعر صرف عملتها ليبقى أقل من قيمته الحقيقية. وانهارت جولة الدوحة لمفاوضات منظمة التجارة العالمية في يوليو/تموز.

ولحسن حظها، تغلبت الإدارة الأمريكية على كل تلك العقبات لإخراج قمة واشنطن التي ساعدت في نهاية المطاف النظام التجاري على البقاء.

ومن المسلم به أن التنافر العالمي الذي تغلبت عليه إدارة "بوش" في عام 2008 يتضاءل مقارنة بانعدام الثقة القائم اليوم.

نقطة بداية منخفضة

وحتى الآن، اتبع "ترامب" نهجه المعتاد في استجابته التجارية لـ "كوفيد-19". وواجهت المستشفيات الأمريكية نقصا حادا في معدات الحماية والوقاية الشخصية.

ومع ذلك، انتظرت الإدارة الأمريكية حتى 17 مارس/آذار لإلغاء تعريفات الحرب التجارية على أجهزة التنفس والأقنعة الجراحية من الصين.

وبعد 10 أيام، عين الرئيس الأمريكي "بيتر نافارو" كبير المستشارين التجاريين، والصقر المعادي للصين، وهو مؤيد رئيسي للتعريفات الجمركية، لتوجيه سلسلة الإمداد وسياسة التجارة في ظل أزمة الوباء.

ثم قامت الإدارة على الفور تقريبا بالاستناد إلى قانون الإنتاج الدفاعي، وقامت بمحاكاة سياسة بروكسل من خلال تقييد الصادرات الأمريكية من أجهزة التنفس والأقنعة أيضا.

وفي 30 مارس/آذار، عقد وزراء تجارة مجموعة العشرين اجتماعا افتراضيا. ولم يذكروا ضغوط الحمائية القادمة أو ما يجب فعله حيال ذلك.

وعلى العكس من ذلك، اغتنم الممثل التجاري الأمريكي "روبرت لايتهايزر"، (وهو متشكك معروف في نظام التجار) الفرصة لإلقاء اللوم في أزمة "كوفيد-19" على التجارة نفسها، قائلا: "للأسف، مثل الآخرين، نتعلم في هذه الأزمة أن الاعتماد المفرط على البلدان الأخرى كمصدر للمنتجات واللوازم الطبية الرخيصة خلقت الضعف الاستراتيجي لاقتصادنا".

واعترف المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي "فيل هوجان" بأن البيان المشترك الصادر عن اجتماع مجموعة العشرين "لم يكن طموحا" كما أراد.

لكن فرنسا وألمانيا يتحملان المسؤولية جزئيا، وبدلا من مواجهة دعوات الحمائية، كان على "هوجن" أن يشرح لماذا لم تكن ضوابط الحمائية الخاصة بالاتحاد الأوروبي على تصدير الإمدادات الطبية سيئة كما تبدو.

من لها؟

وحتى لو لم يأت "ترامب" أبدا، كان "كوفيد-19" سيمثل اختبارا صعبا للنظام التجاري العالمي. لكن "ترامب" ترك منظمة التجارة العالمية أقل استعدادا مما كانت عليه.

وخلافا لعام 2008، يتضاءل الأمل هذه المرة في أن يخرج الحل مباشرة من واشنطن.

وسوف يتطلب إنقاذ النظام التجاري القائم من أزمة الحمائية نوعا خاصا من الإبداع والبصيرة من مكان آخر.

ونسف "ترامب" قواعد منظمة التجارة العالمية لحل النزاعات التجارية في أواخر عام 2019. وردا على ذلك، نظم الاتحاد الأوروبي حلا مؤقتا، حيث وقّع عدد من الاقتصادات الرئيسية خارج الولايات المتحدة على إطار لحل خلافاتها بشكل متناغم.

وقدمت مجموعة من الاقتصادات الأصغر، بقيادة كندا وأستراليا، بيانا تجاريا مناهضا للحمائية، وكانت لغة البيان أكثر حدة وحسما مما اتفقت عليه مجموعة العشرين.

ويجب على حكومات الاقتصادات الكبرى أن تفعل المزيد وبسرعة. ويجب ألا يجعلوا الخلل الحالي في واشنطن يعيقهم.

وكحد أدنى، ستحتاج البلدان إلى توجيه طلبات الحماية العاجلة إلى منظمة التجارة العالمية عبر نظام أكثر شفافية وأقل تشويها.

وسوف تفي تعريفة خاصة تسمى "حماية" بهذه المعايير، وقد تكون الخيار الأفضل. وتشمل هذه التعريفة الضمانات في حالات الطوارئ، عندما تزيد الواردات وتهدد بمزيد من الضرر للصناعة.

وسيمنع تطبيق هذه التعريفة صانعي السياسات من اللجوء إلى الحجج التي تعتبر الإعانات الممنوحة في ظل الاستجابة لـ "كوفيد-19" ممارسة "غير عادلة"، وهو موضوع لا يستحق تبادل الاتهامات خلال جائحة يحتاج معها الجميع تقريبا مساعدة الدولة.

لكن الفشل في توقع المطالبات المقبلة لحماية التجارة، والفشل في الاستعداد لذلك، يعتبر أمرا كارثيا. ولن يكون بدء نظام تجاري عالمي جديد أمرا بالغ الصعوبة فحسب، بل سيكون مكلفا بشكل لا يصدق، حيث سيكون هناك فترة لا يعمل فيها أي نظام على الإطلاق.

وحتى يتم احتواء الوباء في كل مكان، فسوف يبقى مصدرا للقلق في أي مكان. وينطبق الشيء نفسه على "الحمائية".

المصدر | شاد باون - فورين أفيرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

منظمة التجارة العالمية النظام التجاري فيروس كورونا تداعيات كورونا

%11 انخفاضا بحجم التجارة الخارجية الصينية بسبب كورونا

فورين أفيرز: ملامح الفوضى القادمة بعد كورونا

فيتش تتوقع تعثرات سيادية قياسية بعد كورونا وصدمة النفط

انهيار سلاسل التوريد يهدد باندلاع صراعات كبرى