إيـران تـدخـل «عصـر المـاكـدونالـدز»

الجمعة 21 أغسطس 2015 06:08 ص

قبل نحو ست سنوات، وفي قلب العاصمة الإيرانية طهران، زرت مع أصدقاء محليين مطعماً للوجبات السريعة. «ماش دونالدز» ليس مكاناً عادياً، فهو استنساخ طهراني لـ«ماكدونالدز» الأميركي. لكنه نسخة متخطية لكل تعقيدات «الفرانشايز» وحقوق الاسم والملكية.

الفكرة ببساطة تقديم النكهة الأميركية للإيرانيين من دون القفز عن قوانين العام 1979 التي منعت الاميركيين من الاستثمار في السوق الايرانية، رداً على خطوات سريعة ومشابهة من واشنطن مع انتصار الثورة. المكان ذاك، لا يمثل على الإطلاق تصريحاً سياسياً واضحاً بالنسبة لزائريه وزبائنه. القصة لا تتعدّى تعلقاً «بالمطبخ» الاميركي، وسط «رتابة» نظيره الشرقي الإيراني.

لا يمكن من ناحية البحث التاريخي إسقاط النموذج السوفياتي (لأنه الأسبق في المغامرة الشرقية «للماكدونالدز») على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في ظل الفوارق الشاسعة خاصة في الانسلاخ الكبير بين المجتمع والنخبة «الاشتراكية» الحاكمة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وهذا لا يعني أن الحكم الديني في ايران يرتكز على امتداد هرمي حتى القاع، تقوم السلطة فيه على اتصال تام بالجماهير.

فالحالة «الثورية» هناك لم تنجح في القطاع الشعبي الإيراني غير المؤيد للسلطة، برغم مرور ثلاثة عقود، سوى في تكريس المشروعية القائمة على مواجهة الأعداء الخارجيين على كثرتهم، وعلى تفتيت عملية نشأة الأحزاب في مهدها كلما اقتضت الحاجة، وهذا بمعزل عن نسبة كبيرة من الإيرانيين المؤيدين عقائدياً وسياسياً للنظام الحاكم.

برغم أن حالة سكان العاصمة موسكو في 31 يناير/كانون الثاني 1990 خلال انتظارهم بطوابير على أبواب «الماكدونالدز» القادم من على منصة «اصلاحات» آخر زعماء الاتحاد السوفياتي «ميخائيل غورباتشيف»، تشبه إلى حد كبير، الطوابير غير المرئية أو «الطوابير بالقوة» التي تستعد للتحول إلى «فعل» مع قرب انطلاق عملية الاستثمار الغربي ـ الإيراني المشترك في أعقاب رفع العقوبات عن طهران.

بعد حين قريب أو ربما من الآن، لم تعد ايران مضطرة لاستهلاك «البقشيش» الهائل على تجارة الطرف الثالث «Third Party Trade» أو الترانزيت الخاضع لرغبات المضيف الإماراتي أو التركي. وبالتالي فهي مقبلة على مرحلة التحوّل الى شريك كامل العضوية في المنظومة التجارية الدولية، ما يحتم الانفتاح على المقبل بما فيه «الفرانشايز» الأميركي بجحافله وألوانه كافة.

وفي هذا انعطافة لا تعكس إعادة هيكلة للأسلوب فقط، بل للشكل وللمضمون. فإيران اصبحت على الطريق في عملية إعادة صياغة الذات، والاندماج في الدائرتين الاقليمية والدولية ضمن سلة مفاهيم جديدة أو محدثة.

الإيراني محكوم بالشكل والتخريجة، وعلى هذا لا يمكن أن نتوقع المستحيل من ساسة طهران، في أن يعلنوا تغييراً في استراتيجيتهم أو انقلاباً جذرياً في معاييرهم التي تبنى على أساسها السياستان الاقليمية والدولية. فالأمر قد يحصل، إنما بصمت شبه تام. فالجميع يستشعر «نزعة» نحو تغيير درامي، بطيء وعلى مراحل، لكنه صاحب مردود ثقيل، ونتيجة تفوق بتبعاتها الحالة «الخاتمية» التي عاشتها الجمهورية الاسلامية عندما تسلم في أيار العام 1997 «محمد خاتمي» مقاليد الرئاسة، وأطلق معها تغييرات جذرية في السياستين الداخلية والخارجية. لكن الفارق اليوم ان شخصيات كاللواء محمد حجازي وما يمثله في معسكر «الأصوليين»، لن تقف في وجه تغيير «غير المقبول»، بل باتت المسيّر الأساسي للنسخة «المقبولة» منه، ضمن سياق عام لا يحيد عن «رؤية» وبالتالي «إرادة» المرشد الايراني السيد «علي خامنئي».

إيران في صيرورة الاتفاق النووي تخطت محظورات الماضي، خاصة في الحرب على الارهاب وعلى تنظيم «الدولة» تحديداً. فالإحساس القوي لديها بقرب «الهدنة» غير معلومة الأمد مع الأميركيين دفعها نحو التأمل أكثر في مستقبل أكثر هدوءاً، واستشعار الآتي من عملية اعادة صناعة الاحلاف، ووضعها على السكة، صحيحة كانت أم خاطئة. وهو المسار الذي يفترض ان ينجز غالبية الملفات التي انخرطت فيها طوال السنوات الماضية، مع مراعاة التبدل في الأوزان، ومع مراعاة أخرى للرومنسية ذاتها التي لا يقبل فيها الإيراني كما بعض الأنظمة القريبة منه في الخليج العربي، سوى بشخصنة أو أنسنة لكل الأفعال السياسية وشعاراتها. وفي هذا السياق، لا تعني عودة فروع «الماكدونالدز» إلى شارع «ولي عصر» في قلب طهران، تخلياً عن «تحرير القدس» و «الموت لإسرائيل» لكنها قد تنتج في الوقت ذاته شعاراً أكثر سلاسة وبراغماتية من «الموت لأمريكا».

عملت الجمهورية الإسلامية طوال الشهور الماضية بشكل مباشر مع الأمريكيين في الساحة العراقية. غرف التحكم والسيطرة المشتركة لم تكن موجودة. لكن الارتباط العملاني كان أمراً قائماً، وبعهدة ضباط مختصين بالتنسيق اللوجستي. وهذا «التقارب» في الخندق، لم يكن نتاجاً للأخطار التاريخية التي يفرضها تنظيم «الدولة» على أعتى قوة في العالم ونظيرتها في الثقل إقليمياً. بل إن الغزل العسكري هذا كان تعبيراً عن تغيير قائم وقيد التوسع في الرؤية الاستراتيجية الايرانية للمنطقة، ومفادها قناعة بل ربما قبول بدور أمريكي فاعل. وفي هذا استثمار لما بنت عليه دول الخليج العربي سياساتها الأمنية والعسكرية طوال نصف القرن الماضي، حيث اقتربت الساعة التي تزول معها «وسائل» الصراع القديم، بدءاً بالشعارات وصولاً الى تزويد المقاومة العراقية بأسلحة فتكت ببعض طائرات الاحتلال الأميركي ودباباته، في سلسلة «مناسبات مقننة» اقتضتها الغاية أو الحاجة لتصعيد يقابل آخر في أفغانستان، وربما في سيستان داخل إيران في بعض المناسبات.

في سوريا لا تبدو الأمور على الدرجة ذاتها من الوضوح. هناك تتداخل موازين المنخرطين في الحرب. فالنظام لم يصل درجة الذوبان في صالونات حلفائه، وما زال يناور ويظهر قدرة على صناعة الحدث إنما بمقياس ضئيل مقارنة بما قبل الحرب الأهلية السورية. وبرغم ذلك تبدو إيران أقرب للامريكي في إدارته للصراع مع تنظيم «الدولة»، وتبدو أميركا غير بعيدة عن كل الإمكانات الكامنة للتلاقي، لكونها حافظت على الخيارات «المجنونة» إنما من دون استخدامها، فمنعت إقامة منطقة عازلة حقيقية وقادرة على تغيير الموازين، كما أثبتت عدم جدية في تدريب مقاتلين في سبيل قلب النظام، إضافة لشرعنته بشكل او بآخر بعد صفقة الكيماوي الشهيرة. ومن هنا، فإن البناء على ما بعد المبادرة الإيرانية يظهر بوضوح رغبة حقيقية من الطرفين في إيجاد اختراقة ما.

وحدها الساحة اليمنية يمكن وصفها بالمهجورة أميركيا. وكأن واشنطن ارتضتها ساحة لتنفيس الاحتقان الخليجي من «تهديدات» التلاقي الأميركي ـ الإيراني على «الأمن القومي الخليجي»، فعدم الرضا الذي أظهرته بلدان «مجلس التعاون» من احتمالات التقارب بين واشنطن وطهران، كان يرتكز إلى ضبابية الآتي، خاصة في ظل الملفات المعقدة والشائكة بين ضفتي الخليج العربي، والتي لم تظهر إدارة اوباما رغبة في حلحلتها ضمن الصفقة الكبرى، وبالتحديد ملف البحرين والجزر المتنازع عليها بين الإمارات وإيران، وكذلك دعم إيران للأقليات في المنطقة الشرقية في السعودية.

على الساحة الفلسطينية، تبدو منتجات «عصر الماكدونالدز» أكثر قدرة على الانتشار. فالخلاف السابق للتقارب مع الأميركيين كان كفيلاً بتحضير الأرضية لواقع مغاير، إذ إن الإيراني فقد قدراً هائلاً من تأثيره على حركتي «حماس» و «الجهاد» في نتيجة مباشرة لمواقف الحركتين في الأزمة السورية، وكذلك تقارب القيادات الفلسطينية «المقاومة» مع بلدان عربية كقطر والسعودية. وفي هذا الواقع الجديد، بمعزل عن خسارة «ورقة» أساسية على الطاولة الشرق اوسطية، تربح إيران قدرة مناورة أكبر في التعاطي مع الملف الإسرائيلي، خاصة ان رعايتها للتنظيمات المقاومة تقتصر اليوم على الأجهزة العسكرية وبنسب تختلف عن الماضي، ما يضعها على الطريق الممهد لأي لقاء محتمل مع الاميركي في هذا الملف.

إيران اليوم، برغم «مكابرة» نخبها، تعيد صياغة ذاتها أكثر من كونها تعيد صياغة منظومة علاقاتها العامة، فهي بمثابة الثري النازح من الريف الى المدينة. المجهول في الآتي من سياساتها كثير ومعقد، لكن المعلوم أن الجمهورية الإسلامية تفوّقت على ذاتها. وبرغم التصريحات «النارية» او الحامية او الفاترة، أثبتت طهران أنها عدو عاقل، وأنها عنصر يمكن الركون اليه في صياغة المستقبل، وان الفجوة بين الأداء العملاني والشعارات بات كبيراً. كما أثبتت أن «أثر الماكدونالدز» يمر بسلاسة اذا ما تسرب ببطء، من دون أن يشكل ثورة أو انقلاباً مجتمعياً كما حصل في نماذج المعسكر الشرقي بداية التسعينيات من القرن الماضي.

  كلمات مفتاحية

إيران ماكدونالدز اقتصاد رفع العقوبات الانفتاح إعادة هيكلة طهران

الشركات الأجنبية تزاحم لتطوير مصافي إيران بعد رفع العقوبات

إيران تتوقع زيادة صادراتها البتروكيماوية إلى الربع بعد رفع العقوبات

إنتاج إيران من النفط يرتفع إلى نحو 3 ملايين برميل يوميا

مسؤول إيراني: الكويت وجنوب أفريقيا أبدتا رغبة في الاستثمار بطهران

197 مشروعا مرتقبا للطاقة في إيران بقيمة 167 مليار دولار