هل يساهم التنافس الصيني الأمريكي في تشكيل تطورات المنطقة؟

السبت 29 يناير 2022 04:08 م

يرى خبراء السياسة والحرب في واشنطن أن الوضع الدولي يتشكل الآن عبر مسارين رئيسيين هما التنافس بين القوى العظمى لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، والجهود الأوتوقراطية العالمية لتفكيك الديمقراطية.

لكن الاتجاهات في الشرق الأوسط تتناقض مع هذه النظرة والسياسات الأمريكية التي تنبع منها. فبالنسبة لحكام المنطقة، يبدو أن الولايات المتحدة تحارب صين أخرى غير التي يعرفونها.

ويمكننا رصد تداعيات الخلاف بين الولايات المتحدة والصين على المنطقة من خلال استعراض بعض الاتجاهات والأحداث في المنطقة خلال الفترة الماضية.

وفيما يلي أبرز التطورات الأخيرة في المنطقة:

• تتلاشى إلى حد كبير القيود المفروضة على برنامج إيران النووي كرد مستمر على انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في 2108.

• أصبحت الإمارات لاعبا سياسيا وعسكريا رئيسيا كما أصبحت أكثر بارجماتية كما يتضح من تقاربها مع إيران وإسرائيل وتركيا.

• تشهد السعودية انفتاحا وتحررا ثقافيا كبيرا، حتى مع بقاء حاكمها الفعلي "محمد بن سلمان" شخصا غير مرغوب فيه في معظم دول الغرب.

• تتعزز الأجواء التصالحية بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.

• تسعى السعودية إلى مخرج مشرف من مغامراتها العسكرية في اليمن ولا تزال غير قادرة على إيجاده.

• تتفاقم الكوارث الإنسانية والمآزق السياسية في اليمن، بينما تستمر المعاناة الشديدة في غزة وليبيا وسوريا، في حين يتجاهل الغرب الأخيرة بشكل انتقائي.

• يستمر تواجد القوات التركية والأمريكية في سوريا وسط  غياب الاهتمام الدولي بحاجة سوريا لإعادة الإعمار.

• تحاول جامعة الدول العربية إعادة دمج سوريا، وتعمل الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي تدريجيا على تطبيع العلاقات مع حكومة "الأسد".

• تنأى تركيا بنفسها عن أوروبا والولايات المتحدة وتسعى لتأكيد هويتها الشرق أوسطية وكذلك التركية.

• بدأت قدرات الإنتاج الدفاعي المحلية في السعودية في التصاعد.

• نجت "اتفاقيات إبراهيم" بالرغم من فشل الولايات المتحدة في الوفاء بوعودها العسكرية للإمارات واستئناف إسرائيل للتطهير العرقي العدواني والنشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة، والتباعد المتزايد بين وجهات نظر الإمارات وإسرائيل تجاه إيران.

• تغلب النظام الملكي الأردني مرة أخرى على الضغوط الداخلية والخارجية الشديدة، وحققت عُمان انتقالا ناجحا لحكم سلطان جديد.

• تسارعت جهود دول المنطقة لتنويع علاقاتها السياسية العسكرية في أعقاب حروب أمريكا الفاشلة في أفغانستان والعراق وسلبيتها في مواجهة التحديات التي تمثلها إيران لأمن الدول العربية.

ولم يكن أي من هذه التطورات مدفوعا بالخلاف الأمريكي الصيني ولم تتأثر به.

والحقيقة هي أن الدول العربية تستجيب للفرص التي يتيحها لها التعامل مع الصين وتتفاعل مع عدم موثوقية الحماية الأمريكية وعجز سياسات الولايات المتحدة تجاه إيران عبر التحوط في رهاناتها.

ولدى إسرائيل مصلحة في مقاومة المساعي الأمريكية لحظر المشاريع مع الشركات الصينية. وتأتي القرارات الإيرانية إلى حد كبير كرد فعل على سياسة "أقصى ضغط" الأمريكية والتي لها سجل تاريخي من العبث والفشل الكارثي.

وأجبرت العقوبات الأمريكية إيران على الانفصال عن الغرب والتوجه نحو وسط وجنوب وشرق آسيا. وتراهن إيران على الاستفادة من ازدهار الصين المتزايد وتسعى في الوقت نفسه إلى إقامة علاقات مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تهيمن عليه روسيا والذي تم دمجه بشكل متزايد في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.

وتعد التطورات التي ذكرناها نتائج لنهاية الهيمنة الأوروبية الأمريكية في غرب آسيا، والتنافس طويل الأمد بين مختلف الأنظمة السياسية في المنطقة، والتطورات السياسية الداخلية المتباينة.

ولا يعد "التنافس بين القوى العظمى" هو الديناميكية الرئيسية التي تعيد تشكيل المنطقة. وفي غضون ذلك، تتهاوى الادعاءات القائلة بأن "أمريكا عادت" مع تراجعها الميداني الواضح.

وإذا لم تكن الديمقراطية تسير على ما يرام في الشرق الأوسط، فإن هذا يعكس العوامل المحلية التي تفاقمت بسبب تراجع أمريكا عن القيام بدورها كنموذج وحام للديمقراطية وليس بسبب توحش الاستبداد القادم من الصين. على سبيل المثال:

• أصبحت الديكتاتورية العسكرية في مصر أكثر استبدادا من أي وقت مضى.

• فقدت تونس ديمقراطيتها بسبب سوء إدارة حكومتها لأزمة "كوفيد-19".

• تقف الدولة اللبنانية واقتصادها وديمقراطيتها على شفا الانهيار، مع اعتمادها على الدعم من إيران وسوريا اللتين تحتاجان إلى الدعم في الأساس.

• يخضع السودان للحكم العسكري المتجدد.

• تتقلص الحريات الديمقراطية المتاحة للإسرائيليين، فيما تنتهج الدولة الصهيونية ممارسات وحشية ضد السكان العرب (الواقعين تحت الاحتلال) أكثر من أي وقت مضى.

• أطاح الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بـ"الكمالية" ويؤدي سلوكه إلى تآكل الديمقراطية.

• سئم العراقيون من الطائفية وينتظرون أي بادرة لحكم ديمقراطي.

• فقدت العمليات الانتخابية في إيران مصداقيتها بين المواطنين.

وهذه، دون استثناء، تعد جميعا تطورات محلية. وكما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن النزعة الاستبدادية نابعة من الداخل وليست مستوردة. ولا يتعلق الأمر بالصين بكل تأكيد.

وبعد أن فشلت الإطاحة بالحكومات في العراق وليبيا في إضفاء الطابع الديمقراطي عليهما، فإن أمريكا فقدت الرغبة في فرض قيمها ونظام حكمها على دول المنطقة.

باختصار، يثبت الشرق الأوسط خطأ رواية واشنطن بأن التنافس مع الصين أو أن الاستبداد الصيني المتصاعد يفسر الطريقة التي يتطور بها النظام العالمي الجديد. وعند التدقيق في هذا، يبدو أن الوجود الصيني المتزايد في الشرق الأوسط مدفوع بالطلب المحلي أكثر منه جهدا دبلوماسيا أو أيديولوجية من بكين.

ويثير هذا تساؤلا. فإذا كانت بكين لا تسعى إلى معاداة أمريكا في الشرق الأوسط ولا تسعى جاهدة لتقويض الديمقراطية هناك، فما الذي تفعله؟

الجواب هنا هو أن الصين تتصرف إلى حد كبير مثلما فعلت أمريكا في النصف الأول من القرن الـ20. وفي ذلك الوقت، كانت بريطانيا تهيمن على الشرق الأوسط. واعتقد الأمريكيون أن خدمة مصالح شركات النفط الأمريكية يصب في المصلحة القومية للولايات المتحدة، وأنه يجب التركيز على تجارة الطاقة وتجنب الانحياز لأي طرف في النزاعات الخارجية، وأنه يجب دراسة وفهم الثقافات السياسية في المنطقة والتأقلم معها بدلا من التأثير عليها أو محاولة تغييرها.

وأدى النفوذ الأمريكي تدريجيا إلى إزاحة الهيمنة البريطانية. وتجنبت واشنطن بحرص أي تلميح بأنها تسعى إلى استبدال بريطانيا كضامن للاستقرار الإقليمي. ولكن عندما انسحبت لندن، لم يكن لديها خيار سوى القيام بذلك.

والآن تتبع بكين مسارا مشابها، عبر السعي لتعزيز التبادل التجاري دون فرض أي مطالب سياسية أو ثقافية والابتعاد قدر الإمكان عن التورط في النزاعات المحلية.

وبالطبع، تعد الصين الآن كبيرة اقتصاديا لدرجة لا تستطيع معها إلا أن تكون عنصرا رئيسيا في النظرة الإقليمية للعالم. وبين عامي 2000 و2020، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للصين 5 مرات. ويبلغ حجم اقتصادها الصناعي الآن ضعف حجم اقتصاد أمريكا، بالرغم أن اقتصادها الخدمي لا يزال أصغر بكثير.

وقد أصبحت الصين أكبر سوق استهلاكية في العالم، وأكبر مستورد للمواد الهيدروكربونية، وقوة عظمى تكنولوجية ناشئة في عدد متزايد من المجالات.

ويأتي ثلث واردات الصين من الطاقة من مجلس التعاون الخليجي، والجزء الأكبر من السعودية. وتشتري الشركات الصينية سدس صادرات النفط الخليجية وخمس صادرات إيران ونصف صادرات العراق. وأصبحت الصين أكبر مستثمر أجنبي وشريك تجاري في المنطقة. وتريد دول المنطقة أن تزيد الصين مشاركتها لا أن تقللها.

ونظرا لأن الصين تتصدر الابتكار التكنولوجي العالمي، فقد أصبحت شريكا وعميلا مهما لشركات التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل وشريكا في جهود السعودية لتطوير صناعة الأسلحة المحلية.

وانضمت 17 دولة عربية إلى مبادرة "الحزام والطريق". وفي الأسبوع الماضي، كان وزراء خارجية السعودية والكويت وعُمان والبحرين والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي في بكين لمناقشة توسيع علاقات بلادهم مع الصين. وتبعهم وزيرا خارجية إيران وتركيا.

وفي غضون ذلك، يبدو أن الأمريكيين مصممون على تجنب المزيد من التدخل السياسي العسكري في المنطقة. ولكن أثناء قيامهم بذلك، فإنهم يخلقون فراغا وإمكانية حقيقية لتكرار تجربة استبدال الولايات المتحدة لبريطانيا باعتبارها القوة المهيمنة في الشرق الأوسط في القرن الماضي. وستنتهي الصين بالتغلب على أمريكا في هذا القرن.

وتعكس مصالح الصين صدى تلك المصالح التي دفعت أمريكا إلى الانخراط في الشرق الأوسط منذ البداية، كما يتضح فيما يلي:

• للصين مصلحة ملحة في تأمين الوصول إلى موارد الطاقة الغنية في الخليج العربي.

• ترى الصين المنطقة كمركز تجاري مهم ومفترق طرق للتجارة والسفر بين آسيا وأوروبا وشرق أفريقيا، ما يجعل استقرارها مسألة ذات أهمية استراتيجية لبكين.

• هناك طلب متزايد ومتسارع على الخدمات الهندسية وقدرات البناء ومعدات النقل والاتصالات السلكية واللاسلكية والأسلحة والمنتجات الاستهلاكية التي تقدمها الشركات الصينية.

• يؤسس المواطنون ورجال الأعمال الصينيون تواجدا أكبر من أي وقت مضى في المنطقة. ويوجد الآن أكثر من 200 ألف صيني مقيم في الإمارات وحدها.

ومثل أمريكا قبل قرن من الزمان، لا يوجد لدى الصين أجندة إمبريالية أو أيديولوجية واضحة في الشرق الأوسط. وعلى عكس الولايات المتحدة اليوم، لا تطلب الصين من دول المنطقة تغيير أنظمتها وقيمها السياسية، ولا تعاقبهم إذا لم ينجحوا في القيام بذلك، ولا تطالبهم بعلاقات حصرية معها.

وحتى الآن، لم تعلن الصين معارضتها لاستمرار التدخل الأمريكي في المنطقة. وبدلا من ذلك، اقترحت تشكيل حوار متعدد الأطراف حول القضايا الأمنية. باختصار، تقترح الصين المساعدة في التوفيق بين وجهات النظر الإيرانية والخليجية بدلا من فرض وجهات نظرها أو الانحياز لطرف.

لكن منطق مصالح الصين يشير إلى تطور مستقبلي في السياسات الصينية وفق النقاط التالية:

• مع استعداد البحرية الأمريكية للحرب على تايوان وانشغالها عن حماية المصالح العالمية في الخليج العربي، سيتعين على البحرية الصينية عاجلا أم آجلا تحمل مسؤولية تأمين وصول الصين إلى المنطقة ومواردها.

• سيتوقع المدنيون الصينيون في الشرق الأوسط الحماية من الكوارث الطبيعية أو البشرية، بما في ذلك الهجمات الإرهابية، وكذلك الإجلاء في حالات الطوارئ.

• سيفرض دعم المصالح الصينية في منطقة بعيدة ضرورة وصول البحرية الصينية إلى الموانئ والمرافق المحلية. ويعني هذا المزيد من المنشآت مثل القاعدة اللوجستية في جيبوتي التي تدعم دوريات الصين لمكافحة القرصنة في خليج عُمان وعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في شرق أفريقيا.

• سوف تجد الصين صعوبة متزايدة في تجنب استنتاج عملائها بأن مبيعاتها من الأسلحة تنطوي على التزامات دفاعية.

• ستؤدي المعارضة الأمريكية العدوانية لمشاركة الصين في البنية التحتية وغيرها من المشاريع في المنطقة إلى تحفيز الجهود الصينية لتقويض أو إزاحة النفوذ الأمريكي في المنطقة.

• بدأ الخلاف البحري بين الصين والهند بالفعل في تحويل تركيز كل دولة منهما إلى البحث عن كيفية إعاقة تجارة النفط والغاز بين الدولة الأخرى والخليج.

وعلى عكس الولايات المتحدة، تتمتع الصين بعلاقات ودية مع جميع الأطراف في النزاعات العديدة في المنطقة. وأشار الرئيس السابق للموساد الإسرائيلي مؤخرا إلى أن الصين هي الدولة الوحيدة التي يمكنها التوفيق بين إيران ودول أخرى في الشرق الأوسط. وقد يكون على حق.

ومن المرجح أن تصبح الصين قوة متزايدة في الجهود المبذولة لإدارة السلام والأمن في الخليج العربي. والسؤال هنا هو ما إذا كانت الصين ستختار قبول دور نشط في استقرار المنطقة.

ولن يكون دافع هذا القرار هو "التنافس بين القوى العظمى" أو الصراع المزعوم بين الصين والديمقراطية. وسيكون الدافع بدلا من ذلك المصالح الوطنية المتداخلة للصين وأوروبا والهند واليابان وكوريا والولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط. ويشترك الجميع في مصلحة ملحة في شرق أوسط مستقر لا تؤدي نزاعاته إلى تصدير التطرف أو تهديد الوصول إلى إمدادات الطاقة الحيوية.

وسيكون من مصلحة أمريكا والصين والدول الأخرى التي تعتمد على صادرات الطاقة من الشرق الأوسط أن تتشارك عبء الحفاظ على الرخاء العالمي من خلال التعاون معا لحماية تجارة الطاقة في العالم. وإذا كانت الصين أمام اختبار في هذا الصدد، فإن الأمر كذلك بالنسبة لأمريكا.

ويمكن للولايات المتحدة أن تتعاون لتحقيق المنفعة المتبادلة مع الصين والقوى الصاعدة الأخرى والدول المنتجة للنفط في المنطقة، أو يمكنها تجاوز المصالح الواضحة التي تتشاركها مع الصين وغيرها من الدول ومتابعة لعبة لا طائل من ورائها ولا يمكن لطرف الفوز فيها.

المصدر | تشاس فريمان | ريسبونسيبل ستيتكرافت - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

الاستبداد الديمقراطية التنافس الأمريكي الصيني الحزام والطريق بحر تايوان الهيمنة الاقتصادية تنافس القوى العظمى مبادرة الحزام والطريق الشرق الأوسط

هل تشعل تايوان فتيل الصدام العسكري بين الصين والولايات المتحدة؟

الولايات المتحدة تتهم الصين بمحاولة إعادة ترتيب النظام العالمي

منظمة سويدية: تراجع خطير للديمقراطية عالميا.. ودول الشرق الأوسط الأكثر انتهاكا