من أخطر ما يواجه عالم اليوم ظاهرة النفاق السياسي التي يصاحبها عادة تغير (وربما انقلاب) المواقع والمواقف وفقا لما تمليه المصالح، بعيدا عن المبادئ والقيم.
هذه الظاهرة لا تنحصر بالأنظمة العربية المعروفة باستبدادها المقزز، بل إن لها مصاديق في «العالم الحر».
ويمثل التقرير الذي أصدرته السلطات البريطانية مؤخرا حول الإخوان المسلمين، بعد دراسة استمرت عامين، فرضتها «قوى الثورة المضادة» التي قامت بالانقلاب على حكم الرئيس المنتخب، «محمد مرسي»، أحد تلك المصاديق.
صحيح حقبة حكم الإخوان المسلمين في مصر التي لم تتجاوز 18 شهرا انطوت على كثير من العثرات والاخطاء والسياسات غير الموفقة، ولكن القبول بذلك الانقلاب أمر يجسد الظاهرة المذكورة.
وحين تستقبل الحكومة البريطانية الرئيس العسكري المصري الشهر الماضي وتتعامل معه وكأن شيئا لم يكن، وبموازاة ذلك يصدر التقرير المذكور الذي يحاكم الفكر والقناعات والانتماء، فان ذلك يحتاج لوقفات متأملة في الفوضى الفكرية والسياسية وكذلك في ظواهر الإرهاب والتطرف والاستبداد.
التقرير جاء بعد شهور قليلة من الانقلاب العسكري على أول رئيس منتخب في اكبر دولة عربية، وهو انقلاب دموي راح ضحيته أكثر من ألف إنسان خلال ايام قليلة، وكان من نتائجه اكتظاظ السجون المصرية بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين.
كما أن من نتائجه تعمق ظاهرة الارهاب في العالمين العربي والاسلامي.
وقد أظهرت مقاطعة الشعب المصري للانتخابات الأخيرة التي نظمها العسكر لم يشارك فيها إلا أقل من %25 من الناخبين، رفضا قاطعا لما حدث في 3 يوليو/تموز 2013 ذلك الانقلاب الذي كان الفصل النهائي الأكثر دموية في مخطط قوى الثورة المضادة التي أفشلت ظاهرة «الربيع العربي» وحولت البلدان التي انطلقت فيها ثورات الشعوب الى جحيم لا يطاق من الإرهاب والتطرف، يوازيها قمع سلطوي غير مسبوق.
التقرير البريطاني أعد بعد أن أصدر رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، توجيهات في أبريل/ نيسان 2014 بإعداد تقرير مراجعة يستهدف تحديد إن كانت الجماعة تشكل خطرا على الأمن القومي البريطاني.
وقد اشرف عليه السفير البريطاني السابق لدى السعودية، جون جنكنز، لكنه لم يصل الى النتيجة التي كانت قوى الثورة المضادة تأملها، وذلك بتصنيف جماعة الاخوان المسلمين ضمن المجموعات الارهابية، ولكنه توصل الى نتيجة خطيرة مفادها ان الانتماء للجماعة ينطوي على جنوح نحو التطرف. التقرير المذكور كان جاهزا منذ اكثر من عام ولكنه لم يتوصل للنتائج التي كان المحرضون ضد الاخوان يأملونها، بانهم منظمة ارهابية، الامر الذي كان سيحرج الحكومة البريطانية التي تسعى لاسترضاء السعوديين والاماراتيين بأية وسيلة.
بل ان النتائج التي نشرت يوم الخميس الماضي اشارت إلى أن الانتماء للجماعة أو الارتباط بها ينبغي اعتباره مؤشرا محتملا على التطرف لكن المراجعة لم تصل إلى حد التوصية بحظرها.
وقد تطرقت المراجعة لرصد كافة المنظمات التي ينضوي القائمون عليها لخط الاخوان، الامر الذي جعلها مكشوفة للرأي العام بصورة سلبية، مع ان اغلبها يمارس وظيفته بمهنية لا تخلو من تعاطف مع خط الجماعة، ومنها مؤسسة «قرطبة» التي يديرها الدكتور أنس التكريتي، والرابطة الاسلامية في بريطانيا واتحاد الجمعيات الطلابية الاسلامية )فوسيس).
بل ان اللوبي المحسوب على قوى الثورة المضادة يروج ان «المجلس الاسلامي البريطاني» المعروف اختصارا بـ» ام سي بي»، مرتبط فكريا بالجماعة.
وقد استطاعت قوى الثورة المضادة دق الاسفين الطائفي بين الطرفين ببراعة فائقة حتى تقطعت كافة خيوط التواصل في ما بينهما، في الوقت الذي تصاعد استهدافهما معا.
ففيما يتم التضييق على الاخوان والسعي لتصفية وجودهم في البلدان العربية وبريطانيا، فان ايران نفسها مستهدفة بالمجموعات المتطرفة (التي طرحت بديلا للاخوان).
فنشرت هذه المجموعات في العراق وباكستان وبدأت تحتل مواقع حركة «طالبان» في افغانستان، لتكمل الطوق حول ايران.
ماذا يعني ذلك؟ وهنا ينبغي التطرق لبعض الحقائق.
اولاها ان الاخوان المسلمين اقدم حركة اسلامية معاصرة، ويعتبر العمل الاسلامي الذي ارتبط بظاهرة «الصحوة الاسلامية» التي انطلقت بعد حرب 1967 امتدادا لها، فكريا او تنظيميا. كما ان العمل الاسلامي في بريطانيا الذي انطلق في اطاره الطلابي قبل نصف قرن، قاده طلاب ينتمي اغلبهم للجماعة.
كما يمكن اعتبار الحركات الاسلامية الاخرى كالجماعة الاسلامية في شبه القارة الهندية والتيار الاسلامي في تركيا الذي قاده نجم الدين اربكان، وحركات اخرى في جنوب شرق أسيا، كلها محسوبة في خطها العام على الاخوان المسلمين.
الثانية: ان خط الاخوان بشكل عام لا يمارس العنف، ومن كان يجنح للعنف انفصل عن الجماعة ليشكل مجموعات اخرى، كالجماعات الاسلامية في مصر، وربما ارتبط بعضهم بتنظيم القاعدة لاحقا مثل أيمن الظواهري.
وتؤكد نتائج المراجعة المذكورة هذه الحقيقة.
الثالثة: ان الجماعة اضافت للعالم الاسلامي على مدى العقود الثلاثة من الخمسينات حتى السبعينات، عطاء فكريا واسعا استقى رموز ما يسمى «الاسلام السياسي» منه معينهم الفكري، وساهم في التنظير لمقولة «الحكم الاسلامي».
وفي موازاة ذلك كان هناك طرح آخر تطرحه المجموعات المحسوبة على التيار السلفي، ابتدأت بطرح مقولة «تطبيق الشريعة» ثم عمد بعضها لتكفير المجتمع قبل ان تتبلور في العقد الاخير لتتشكل مجموعات داعش وسواها من حركات الارهاب والتكفير.
رابعها: ان الفكر الذي طرحه الاخوان جاء في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية في 1923.
فقد تأسست الحركة على يدي الامام الشهيد حسن البنا في 1928وطرحت فكرا يهدف لبناء الفرد اولا ثم الجماعة ثم اقامة الحكم الاسلامي.
وبعد عشرين عاما على التأسيس كان لها دور بارز في فلسطين خلال النكبة، وتعرضت لاول محنة شديدة في العام 1954 على يدي الرئيس جمال عبد الناصر الذي اعدم آنذاك عبد القادر عودة وبعد اثني عشر عاما اعدم سيد قطب.
وتواصلت محنتها حتى مطلع الثمانينات.
اللغط الذي اثير حول الجماعة تصاعد في العامين الاخيرين بعد اسقاط حكم الاخوان في مصر.
ومن بين دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، برز الدور البريطاني في التصدي لمشروع «الاسلام السياسي» الذي يمثله الاخوان في جانبه السني، وايران في جانبه الشيعي.
وقد جاءت خطوة السيد كاميرون لاحداث توازن مع المراجعة التي اجرتها لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان البريطاني في 2013 حول العلاقات بين بريطانيا وكل من السعودية والبحرين.
وبعد ان استمعت لافادات من اطراف شتى، اصدرت اللجنة توصيات للحكومة البريطانية التي لم تلتزم بها.
اين يتجلى النفاق السياسي؟ اولا: ان الحكومة المصرية تصنف الجماعة بأنها منظمة إرهابية لكن السيسي قال في زيارته لبريطانيا الشهر الماضي إن من الممكن أن تلعب الجماعة دورا في الحياة العامة إذا أراد المصريون عودتها.
فاذا كانت ارهابية فما معنى هذا التصريح؟ ثانيا: ان الجماعة وبقية مجموعات المعارضة اصبحت مستهدفة بشكل غير مسبوق لارضاء بعض دول الخليج .
ثالثا: ان البديل لهذه المجموعات المعتدلة هو مجموعات التطرف والارهاب من جهة وانظمة الاستبداد من جهة اخرى، فهل هذا معقول؟ رابعا: ان خطاب الاعتدال الذي طرحه رموز مشروع «الاسلام السياسي» والذي سعوا فيه للتقريب بين المنظومة الديمقراطية والاسلام لم يفدهم كثيرا، بل اصبح يستخدم ضدهم خصوصا من قبل مجموعات التطرف والارهاب.
فما الذي يريده التحالف بين الغرب والاستبداد؟ أليس البديل للاخوان هذه الفوضى الفكرية والاخلاقية والسياسية الناجمة عن صعود المجموعات المسلحة في العديد من بلدان العالمين العربي والاسلامي؟
٭ د. سعيد الشهابي كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن.