كيف كشفت الحرب الروسية الأوكرانية شخصيات بوتين المتعددة؟

السبت 25 فبراير 2023 07:10 م

عندما هاجم الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أوكرانيا قبل عام، فسرت بعض النظريات خطوته غير المنطقية بالانفصال عن الواقع بعد عامين من العزلة الاختيارية خلال "كورونا"، بينما رأى آخرون أنه مجرد سوفييتي يحاول الانتقام، حيث يعتقد أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الحالي.

ومع ذلك يرى "ديفيد هيرست" في مقاله المنشور في "ميدل ايست أي" أن الغالبية لم يهتموا بقراءة الكتب التي ملأ بوتين عقله بها، أو حتى قراءة خطاباته، حيث كان قرار الهجوم على أوكرانيا أكثر من مجرد رد فعلٍ على توسع حلف الناتو شرقاً، أو رداً على فكرة كون روسيا محاطةً بالقوى المعادية.

ويضيف "هيرست" أن نهضة الحركة القومية والدينية الروسية؛ جاءت كنتيجة مباشرة لفشل محاولة تغريب روسيا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي، ولهذا يعد "بوتين" بمثابة رد فعلٍ على محاولة "التدمير الإبداعي" الغربي لروسيا، وفق رأيه.

شخصية معروفة

لا شك أن الرجل الذي سبّب العام الماضي أكبر صدمةٍ في تاريخ الأمن الأوروبي، منذ زحف هتلر على راينلاند هو شخصية يعرفها الجميع، فلم يكن "بوتين" حديث عهد بالساحة الدولية فهو أطول زعيم على قيد الحياة حكم دولة نووية. وقد عاصره العديد من القادة الغربيين السابقين.

ويؤكد "هيرست" أن أي شخص التقى "بوتين" يعتقد أنه يمتلك أكثر من شخصية، ومن المؤكد أن صعوده إلى السلطة اعتمد على تجربة التبديل بين تلك الشخصيات.

ومن تلك الشخصيات، كان "بوتين" من ضباط الاستخبارات السوفييتية "الكي جي بي"، وتركزت جهوده على المجالات الاستخباراتية في منطقة معزولة من ألمانيا الشرقية.

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، حوّل "بوتين" اتجاهه إلى العمل الخاص. وتعامل مع عمدة سانت بطرسبرغ "أناتولي سوبتشاك" الذي كان بحاجة لشخص يساعده وقد وجد ضالته في بوتين الهادئ، والرصين، والمطيع، والذي يتحدث الألمانية. وسرعان ما أصبح "بوتين" نائباً للعمدة.

وتعامل بوتين مع فكرة بيع كل شيء يمكنه أن يضع يده عليه، لدرجة أنه كاد يسقط بسبب فضيحة، ففي عام 1992، خضع "بوتين" للتحقيق بسبب صفقة طعام مقابل الوقود بقيمة 100 مليون دولار حيث أُرسِلَت المواد الخام بالفعل، لكن مواطني بطرسبرغ لم يحصلوا على طعامهم مطلقاً.

وقد أسفرت التحقيقات حينها عن مسؤولية "بوتين" عن الأمر، ونتيجةً لذلك، أصبحت المدينة لا تملك أي شيء، بعد أن نفد طعامها بالكامل في عام 1992.

ويضيف الكاتب أنه بعد أسابيع من مقابلة أجرتها "مارينا" المسؤولة عن التحقيق"، أعلنت وفاتها "لأسباب طبيعية".

ووفقا للكاتب كان نجاح "بوتين" في سانت بطرسبرغ سبباً في لفت أنظار الكرملين إليه، خاصة مع فشل الرئيس "بوريس يلتسن".

الانتقال للسلطة

ظهر "بوتين"، كرجل يستطيع إنجاز الأعمال. وهنا يلفت الكاتب إلى معلومة مهمة وهي أن "بوتين" لم يصعد إلى السلطة على ظهر الاستخبارات السوفييتية المنحلة، أو الشيوعيين السابقين الذين أداروا الصناعة، أو حتى عبر الحزب الشيوعي نفسه. بل صعد من خلال العائلة، وهي الحاشية الفاسدة والمدعومة من الغرب للرئيس "يلتسن"، الذي دشّن دولة المافيا الروسية.

وتعلم "بوتين"  خلال السنوات السابقة لوصوله للحكم ألا يثق بأي وسيط، وبدأ يرتب كل صفقاته بنفسه، وجاء صعوده داخل الكرملين سريعاً، وبمجرد اختياره كرئيسٍ لوزراء "يلتسن"، كان عليه أن يتحرك بسرعة.

شرع "بوتين" بابتزاز أفراد الأوليجارشية، وسرعان ما أذعن الجميع له باستثناء "ميخائيل خودوركوفسكي"، الذي انتهى به المطاف في السجن ثم المنفى.

لقد صنع "بوتين" وفقا للكاتب حينها جيله الخاص من نخب الأرستقراطية. وسمح لأفراد الأوليغارشية التابعين له بجني المال، ما داموا يُظهرون الولاء له.

وحول خبرة "بوتين" الحربية يشير الكاتب أنه اكتسب خبراته الأولية بشن الحرب الشيشانية الثانية، التي كانت أكثر وحشيةً وقسوة مما فعله "يلتسن" في الشيشان عام 1994.

ووصل الأمر "ببوتين" إلى اختلاق ذريعته الخاصة للحرب، حيث انفجرت 4 مجمعات سكنية في بويناكسك، وموسكو، وفولغودونسك لتودي بحياة 300 شخص، وجرح أكثر من ألف شخص، وتم إلقاء اللوم حينها على "الإرهابيين الشيشانيين".

ومثل صفقة سان بطرسبرغ انتهى الأمر بكل شخص حاول التحقيق في تفجيرات الشقق على طاولة المشرحة.

ظهور البوتينية قبل بوتين

كان "بوتين" وافدا جديدا على السياسة عام 1999، لكن البوتينية كانت حيةً تُرزق بالفعل آنذاك، وذلك بفضل التجربة الغربية التي كانت تتجه إلى الفشل الذريع.

ويذكر "هيرست" أنه واجه ذلك الأمر عندما كان مراسلاً في موسكو، لأنه كان معروفاً بانتقاده لـ"يلتسن". وفي وقتٍ مبكر من عهد "يلتسن"، تلقى اتصالاً من حارسه الشخصي السابق وجنرال الاستخبارات السوفييتية "ألكساندر كورجاكوف" طالبا مقابلته.

وعند اللقاء به، شعر "هيرست" أنه يجلس أمام الغضب الوطني القومي لأحد جنرالات الاستخبارات السوفييتية، إذ كان يشعر بأن الغرب يُقسّم روسيا مجددا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي، ويُؤلّب الحلفاء السابقين في جورجيا وأذربيجان وأوكرانيا ومولدوفا ضد موسكو، ليُفكك مخزونها من الأسلحة النووية تحت ستار التفتيش، ويجعل اقتصادها خاضعاً للمصالح الأمريكية، ويحيّد جيشها الذي كان قوياً في يومٍ من الأيام.

وينبّه الكاتب هنا أن هذا حدث قبل أن يسمع أي شخصٍ في روسيا اسم "بوتين"، لكنه كان يعبّر عن أفكار الاستياء القومي نفسها التي كانت ترى "يلتسن" و"غورباتشوف" كخونة.

وفقا للكاتب، كان "كورجاكوف" وغيره من الأشخاص غاضبين بشدة حيال فكرة تقسيم أسطول البحر الأسود مع أوكرانيا، التي كانت قد حصلت على سيادتها للتو، ناهيك عن فقدان قاعدة غواصات في البحر الأسود.

التجربة الغربية الفاشلة

طبّقت الولايات المتحدة استراتيجية إعادة بناء الدول في أفغانستان والعراق، لكنها جربتها للمرة الأولى داخل روسيا خلال التسعينيات في الواقع، وفق "هيرست".

ولعب "بوتين" في تلك الفترة دور الحليف المخلص. وأقنع الثنائي الساذج "بوش" و"بلير" بأن يضما المذبحة في الشيشان تحت عباءة حربهما على الإرهاب.

ويعتبر الكاتب أن لحظة انفصاله عن الغرب، جاءت في خطابٍ ناري ألقاه أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2007، لكنه استغرق 4 سنوات أخرى بعدها حتى يتخذ القرار بفعل شيء حيال الأمر.

ولم ينفجر غضب "بوتين" إلا بعد التدخل الغربي في ليبيا. وكانت ازدواجية واشنطن في ليبيا وسقوط "القذافي" هي التي أقنعت "بوتين" بالتدخل في سوريا بعدها بأربع سنوات.

ومن وجهة نظر "بوتين"، كانت ثورات الربيع العربي أشبه بثورات ملونة من تنظيم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

كانت هناك دوافع أخرى لدى "بوتين"، وقد تأثر بشدة بأفكار الكاتب "ألكسندر سولجنيتسين" الذي كانت عودته إلى الوطن الأم بعد سنوات من المنفى مسألة مثيرة.

وقد مُنح الرجل برنامج دردشة تلفزيوني، لكنَّه أوقف بعدما انحدر البرنامج، وتحول إلى أحاديث تنمُّرية طويلة، وكان الرجل مشمئزا من الانحطاط الغربي ولكن كان لـ"سولجنيتسين" معجب واحد على الأقل في موسكو هو "فلاديمير بوتين".

وكان اشمئزاز "سولجنيتسين" من الانحطاط الغربي الذي انحدرت إليه روسيا الجديدة يستهوي بوتين تماماً، وكان مما قاله أيضاً في أكثر من مناسبة إنَّ أوكرانيا ليست موجودة.

ويقول الكاتب إن أحد جذور أفكار "سولجنيتسين" كانت كتابات "إيفان إيليين"، وهو روسي أبيض فرَّ خلال الثورة البلشفية ومات في المنفي بسويسرا عام 1954 حيث عارض "إيليين" البلشفيين وأيَّد نمطاً من السلطوية المسيحية شبيه بنمط نظام فرانسيسكو فرانكو في إسبانيا.

وكان "إيليين" مؤمناً بأنَّ لدى روسيا "واجب للحفاظ على استبدادها التقليدي ومقاومة الليبرالية الغربية". 

وكان هنالك مفكرون روس آخرون تأثر بهم بوتين، مثل "فلاديمير سولوفيوف" وأيضاً "فلاديسلاف سوركوف"، الذي اخترع العقيدة السياسية لـ"الديمقراطية السيادية" لروسيا، والتي يسترشد بها الكرملين منذ عام 2006.

ويضيف الكاتب أنه حين خفت نجم "سوركوف"، جرى استبداله بـ"ألكسندر دوغين". ويُعَد دوغين فيلسوفاً ومحللاً سياسياً وأحد المشاعل الرائدة خلف "الجبهة البلشفية الوطنية" و"حزب أوراسيا" اللذين يمثلان القوميين المتشددين، وسرعان ما أدركت أوكرانيا مسؤوليته في الغزو، فجرى تفجير السيارة التي كان من المفترض أن يستقلها، ما أسفر عن مقتل ابنته "داريا".

ورأى "دوغين" أنَّ الطريقة الوحيدة كي تستعيد روسيا نفوذها العالمي هي دحر الغرب. ولكي تفعل روسيا ذلك، يتعين عليها زعزعة السياسة في الولايات المتحدة وتشجيع "البريكست". ويقول الكاتب: "إن كان هنالك من أب روحي لعلاقات روسيا مع اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا، فهو دوغين".

ويشير "هيرست" أن أمريكا اعتقدت طوال 3 عقود بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أنَّ لديها الحقوق الحصرية لاستخدام القوة الدولية. ولا تزال تعتقد أنَّ لديها الحقوق الحصرية لتحديد كيف تبدو الديمقراطية، ومَن ينبغي أن يكونوا حلفاء تلك الديمقراطية، وهو يرفضه بوتين وروسيا.

أوكرانيا.. حرب أمريكا

جوابا على سؤال" "ماذا قد يفعل بوتين إذا ما نجحت أوكرانيا في طرد الغزاة؟"، يقول الكاتب أن روسيا لم تعد دولة متخلفة يقودها روحانيون كثيفو الشعر، وهي تملك أكبر قوة نووية في العالم.

في المقابل، فإن أوكرانيا لم تعد حرباً "صغيرة" في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بل أصبحت صراعا عالميا حيث عزَّز القادة الغربيون دعمهم العسكري لأوكرانيا من خلال وجودهم السياسي على خط الجبهة لـ"حربهم على الاستبداد".

ويرى الكاتب أن وجود الرئيس الأمريكي "جو بايدن" على جبهة كييف أرسل رسالة سياسية قوية لروسيا بأنَّ هذه الحرب باتت الآن حرب أمريكا، وليست حرب أوكرانيا فقط.

لم تعد أوكرانيا حرب وكالة. إنَّها حرب تنخرط فيها روسيا والغرب بصورة كاملة. فالطرفان الآن يتحدثان عنها بتعبيرات وجودية.

لا يوجد مخرج جانبي لأيٍّ من الطرفين، وليس هنالك سوى قلَّة من البلدان للوساطة بينهما.

يرى الكاتب أن القوة الوحيدة القادرة على كبح جماح "بوتين" في حال تعرُّض قواته التقليدية لهزيمة مذلة في أوكرانيا هي الصين.

أما بالنسبة للصين التي أُصيبَت بالشلل نتيجة "كورونا"، جاء تحدي "بوتين" المباشر للغرب سابقاً لأوانه. فمن وجهة نظر بكين، كان الأمر غير مدروس. ولا يعني ذلك بالضرورة أنَّه خاطئ أو غير مبرَّر، لكنَّه متسرع حيث ترى الصين أن صعودها كقوة إقليمية ما يزال طور التقدم، ناهيك بصعودها كقوة عالمية.

وبشكل عام، ترى الصين أن الحرب ليست في صالحها. لكنَّ الاستنزاف التدريجي للنفوذ الاقتصادي والعسكري الغربي حول العالم وصعود المزيد من الفاعلين الإقليميين الأقوياء هو بالتأكيد في صالحها، وفق "هيرست".

لكن "هيرست" يعود ليؤكد أنه ليس من مصلحةبكين نشر الثقل الكامل للقوة العسكرية الغربية، أو إعادة تفعيل الناتو بعدما كان يعاني. فكل قوة غربية كبرى الآن تنفق أكثر على دفاعها، وتتخلى ألمانيا عن نزعتها السلمية التي ظهرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وآخر ما تريده الصين هو أن تشعل أوكرانيا حرباً عالمية ثالثة مثلما أشعلت بولندا الحرب العالمية الثانية.

ويشير الكاتب إلى أن الرئيس الصيني "شي جين بينغ" أقام بالفعل مسافة فاصلة بينه وبين "بوتين" في ما يتعلَّق بأوكرانيا، خلال مناسبة علنية واحدة على الأقل. فخلال أول لقاء مباشر بينهما منذ بداية الغزو في قمة منظمة شنجهاي للأمن في سمرقند، اضطر "بوتين" للاعتراف بمخاوف الصين حيال الغزو.

وتكمن المشكلة هنا في أنَّ الولايات المتحدة لم تبذل قصارى جهدها لإيجاد حافز للصين من أجل النأي بنفسها عن "بوتين"، في حين يمكن أن تغيّر الصين توازن القوى على الأرض من خلال تسليح روسيا بأسلحة أكثر قوة من الطائرات دون طيار.

ومن زاوية أخرى قد تقنع الصين نفسها بأنَّ الطريقة الوحيدة لمنع روسيا من استخدام السلاح النووي هي تعزيز قواتها التقليدية في أوكرانيا.

وعلى الطرف الآخر مع تزايد قناعة روسيا مدى ضعف قواتها التقليدية مقارنةً بالناتو، أصبحت القوة النووية الاستراتيجية أكثر أهمية بالنسبة لروسيا.

ولهذا يقول الكاتب إن كل الدلائل تشير إلى أنَّ أبعاد الحرب في أوكرانيا ستتنامى.

ويختم الكاتب بأن هنالك عدد من السيناريوهات للعام المقبل: انهيار آخر للقوات الروسية في هجوم الربيع ثُم المفاوضات، أو حالة جمود في ظل عدم قدرة القوات الأوكرانية على تغيير الواقع، أو انهيار كامل للمناطق التي تسيطر عليها روسيا.

ويؤكد الكاتب أن الصين ستكون عاملاً رئيسياً في كل سيناريو. لكن إن لم تكن كذلك، فسيكون الوضع صعبا على الرئيس الأمريكي أو رئيس الوزراء البريطاني، في ظل وجود إصبع روسيا القومية الجريحة المهزومة في وضع الاستعداد على الزر النووي على نحو ينذر بنهاية العالم.

المصدر | ديفيد هيرست/ ميدل إيست آي – ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

بوتين الصين أوكرانيا بايدن دوغين

معهد إسرائيلي: التقييمات الروسية والغربية للحرب في أوكرانيا فاشلة

بوتين يمنح الأوكرانيين بمناطق سيطرة موسكو الجنسية الروسية

الاستماع لوجهة النظر الأخرى.. مودرن دبلوماسي يطرح حلا للأزمة الروسية الأوكرانية